بحث وجيز في حقيقة الاستحسان

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فإن الاستحسان يُعَدُّ من الأدلة المختلف فيها بين علماء الأصول، بين مُنكِرٍ ومُجيزٍ، وناظرٍ للمسألة على أنها لا فائدة منها، كلٌّ بحَسَب معناه الحقيقي الذي تَبيَّن له، وفي هذا المبحث الوجيز أنقلُ كلام العلماء في بيان حقيقة الاستحسان ووَجْه الخلاف الدائر فيه، وهل هو اختلاف لفظي أو معنوي؟ وقد قسمت هذا المبحث إلى النقاط التالية:
أولًا: معنى الاستحسان ومذاهب العلماء.
ثانيًا: أنواع الاستحسان المشروع بحسب حقيقته.
ثالثًاحقيقة معنى قول الشافعي.
رابعًاالخلاف في حقيقة الاستحسان لفظي.
خامسًاالخلاصة في حقيقة الاستحسان.
♦♦♦♦♦

أولًا: معنى الاستحسان ومذاهب العلماء:
قال الزركشي: "وهو - أي الاستحسان - لغةً: اعتماد الشيء حَسَنًا، سواء كان عِلْمًا أو جهلًا؛ ولهذا قال الشافعي: القول بالاستحسان باطلٌ، فإنه لا يُنبئ عن انتحال مذهب بحجَّة شرعية، وما اقتضته الحجة الشرعية هو الدِّين سواء استحسنه نفسه أم لا"[1].

وجاء في المسودة لآل تيمية: «كان أبو حنيفة وأصحابه يقولون به، وأنكره الشافعي عليهم، وبسط أبو الخطاب القول فيه عقيب تخصيص العلة.

قال القاضي عبدالوهاب المالكي: ليس بمنصوص عن مالك[2] إلَّا أنَّ كتب أصحابنا مملوءة من ذكره والقول به، ونص عليه ابن القاسم وأشْهَب وغيرهما.

وفسَّره الحلواني بأوجه، ويحتمل عندي أن يكون الاستحسان ترك القياس الجلي، وغيره لدليل نصٍّ من خبر واحد، أو غيره، أو ترك القياس لقول الصحابي فيما لا يجري فيه القياس كما تقدَّم»[3]، ثم قال شيخ الإسلام بعد نقل قول الحلواني: «وهذا الكلام منه يقتضي أن الاستحسان ترجيح أحد الدليلين على الآخر، وهذا معنى قول القاضي: ولفظ الاستحسان يُؤيِّد هذا؛ فإنه اختيار الأحسن وإنما يكون في شيئينِ حَسَنَينِ؛ وإنما يُوصَف القول بالحَسَن إذا جاز العمل به لو لم يعارض»[4].

وجاء في «المذكرة في أصول الفقه»:" للاستحسان ثلاثة معانٍ:
أحدها: العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاصٍّ من كتاب أو سنة، قال القاضي يعقوب: القول بالاستحسان مذهب أحمد رحمه الله، وهذا التعريف للاستحسان هو الصحيح عند المؤلف ولذا رد التعريفين الآخرين.

الثاني: أن المراد به ما يَستحسنه المجتهد بعقله.

الثالث: أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه.

وبطلان هذين التعريفين ظاهر؛ لأن المجتهد ليس له الاستناد إلى مجرد عقله في تحسين شيء، وما لم يعبر عنه لا يمكن الحكم له بالقبول حتى يظهر ويعرض على الشَّرْع"[5].

ومعنى ذلك أن حقيقة الاستحسان كما يراها العلماء هو الاستناد إلى دليل شرعي في الحكم على مسألة، وأنه لا مجال للعقل في تحسين حكم شرعي.

ثانيًا: أنواع الاستحسان المشروع بحسب حقيقته:
وما ذكرناه سابقًا هو نفسه الذي ذهب إليه السَّرْخَسِي؛ حيث ربط الاستحسان بالدليل الشرعي؛ قال: «الاستحسان لغةً: وجود الشيء حسنًا، يقول الرجل: استحسنتُ كذا؛ أي: اعتقدتُه حَسَنًا على ضدِّ الاستقباح، أو معناه: طلب الأحْسَن للاتِّباع الذي هو مأمور به؛ كما قال تعالى: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [الزمر: 17، 18]»[6].
ثم بيَّن نوعيه بقوله:
«وهو في لسان الفقهاء نوعان:
العمل بالاجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع موكولًا إلى آرائنا، نحو المتعة المذكورة في قوله تعالى: ﴿ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 236] أوجب ذلك بحسب اليَسَار والعُسْرة، وشرط أن يكون بالمعروف، فعرفنا أن المراد ما يُعرَف استحسانُه بغالب الرأي.

وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 233]، ولا يظن بأحد من الفقهاء أنه يخالف هذا النوع من الاستحسان.

والنوع الآخر هو الدليل الذي يكون معارضًا للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهامُ قبل إنعام التأمل فيه، وبعد إنعام التأمُّل في حكم الحادثة وأشباهها من الأصول يظهر أن الدليل الذي عارضه فوقه في القوة؛ فإن العمل به هو الواجب فسمَّوا ذلك استحسانًا للتمييز بين هذا النوع من الدليل وبين الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل التأمُّل على معنى أنه يُمال بالُحكْم عن ذلك الظاهر لكونه مستحسنًا لقوة دليله»[7]، ثم استحسان العمل بأقوى الدليلَينِ لا يكون من اتِّباع الهوى وشهوة النفس في شيء[8].

معنى ذلك أن حقيقة الاستحسان تدور بين أمرين:
الأول: ما تركه الشرع للعُرْف فيُؤخَذ الأحسن منه؛ قال الزركشي بعد بيان مذهب مالك في الاستحسان: «وقال بعض مُحقِّقي المالكية: بحثْتُ عن موارد الاستحسان في مذهبنا فإذا هو يرجع إلى ترك الدليل بمعارضة ما يُعارضُه بعضُ مقتضاه، كترك الدليل للعُرْف في ردِّ الأيمان إلى العُرْف أو المصالحة»[9].

والثاني: الأخذ بالدليل المعارض لقياس ظاهر قبل التأمُّل فيه، وسيأتي ما يُعضِّد هذه الحقيقة من كلام الشاطبي رحمه الله.

ثالثًا: حقيقة معنى قول الشافعي:
وعن قول الشافعي: «وإنما الاستحسان تلذُّذ، ولا يقول فيه إلَّا عالمٌ بالأخبار، عاقل للتشبيه عليها»[10]، يقول الزركشي في معنى (تلذذ): «وإنما قال ذلك لأنه قد اشتَهر عنهم أن المراد به حُكم المجتهد بما يقع في خاطره من غير دليلٍ»[11]؛ مما يدل على أن الشافعي رد الاستناد إلى العقل والهوى في تنزيل الأحكام الشرعية لا إلى الاستحسان؛ من حيث حقيقته عند الفقهاء والذي هو إعمال الدليل الأقوى.

رابعًا: الخلاف في حقيقة الاستحسان لفظيٌّ:
قال ابن السمعاني: «ذكر الأصحاب أن القول بالاستحسان في أصول الدين فاسدٌ، وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى القول به، وكذلك القول بالمصالح والذرائع والعادات من غير رجوع إلى دليل شرعي باطل، فأما مالك فإنه يقول بذلك ويعتمده»[12].

ثم قال لبيان وجه الاختلاف في حقيقة الاستحسان«ويُقال لهم: إن كان الاستحسان هو الحكم بما يهجس في النفس ويستحسن في الطَّبْع، فلا شك أنه باطلٌ، والأحكام إنما تُبْنى على أدلة الشرع؛ لا على الهواجس والشهوات وما يقع في الطِّباع، وإن كان هو الحكم بأقوى الدليلينِ من كتاب أو سُنَّة أو إجماع أقوى من قياس، فلا معنى لتسميتهم ذلك استحسانًا، ولئن كان هذا النوع استحسانًا فكل الشرع استحسان، فلا معنى لتخصيص ذلك ببعض المواضع دون البعض.

واعلم أن مرجع الخلاف معهم في هذه المسألة إلى نفس التسمية؛ فإن الاستحسان على الوجه الذي ظنَّه بعض أصحابنا من مذهبهم لا يقولون به، والذي يقولونه لتفسير مذهبهم به العدول في الحكم من دليل إلى دليل هو أقوى منه؛ وهذا لا نُنْكِره؛ لكن هذا الاسم لا نعرفه بآية ما لما يقال به لمثل هذا الدليل، وقد قال بعضُهم: إنه تخصيص قياس بدليل أقوى منه، وهذا باطل؛ لأنا لا نقول بتخصيص الأقيسة وقد أبطلناه من قبلُ.

وقال بعضهم: هو عدول عن قياس إلى قياس أقوى منه، وهذا أيضًا باطل؛ لأنهم يسمون إذا عدلوا عن القياس إلى نصٍّ استحسانًا أيضًا...» إلى أن قال: «...وعلى الجملة لا معنى لهذه التسمية وهي تسمية لا يمكن حَدُّها بحدٍّ صحيح تختصُّ به، وأما تفسيرهم الذي يُفسِّرونه فنحن قائلون بذلك وليس ممَّا يتحصَّل فيه خلاف»[13].

وهو عين ما مال إليه الشوكاني رحمه الله؛ حيث قال: «واختلف في حقيقته: فقيل: هو دليل ينقدح في نفس المجتهد، ويعسُر عليه التعبير عنه، وقيل: هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى، وقيل: هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، وقيل: تخصيص قياس بأقوى منه، وقد أنكره الجمهور، حتى قال الشافعي: مَنِ استحسَنَ فقد شَرَّعَ، قال الروياني: ومعناه أنه ينصب من جهة نفسه شرعًا غير الشرع...»، إلى أن قال بعد أن ذكر خلاف العلماء في ذلك من المالكية والشافعية: «عرفت بمجموع ما ذكرنا أن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه أصلًا؛ لأنه إن كان راجعًا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار، وإن كان خارجًا عنها فليس من الشَّرْع في شيء؛ بل هو من التقوُّل على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة، وبما يُضادُّها أخرى»[14].

وبذلك يتبيَّن مما سبق أن الخلاف في المسألة لفظيٌّ، وأنَّ جُلَّ الفقهاء يعملون بحقيقة الاستحسان؛ إذ الجميع مُتَّفِق على أن الأحكام الشرعية غير مبنية على التشهِّي والهواجس.

خامسًا: الخلاصة في حقيقة الاستحسان:
ويمكن تلخيص الكلام في هذه المسألة بأن نقول: إن الاستحسان مردُّه إلى الدليل الشرعي من كتاب أو سُنَّة من جهة ثبوت الحكم عند تَعارُض دليلَينِ، وأن الحكم ليس مرتبطًا بالخواطر والهواجس، ويجدُر هنا أن أنقل كلام الشاطبي رحمه الله في الموافقات؛ لبيان كيف فَهِمَ حقيقة الاستحسان وربطها بمقاصد الشرع: "...الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليلٍ كلي؛ ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسَل على القياس؛ فإن مَنِ استحسَنَ لم يرجع إلى مجرد ذَوْقه وتشهيه؛ وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة؛ كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرًا إلا أن ذلك الأمر يُؤدِّي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك، وكثير ما يتَّفِق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي، والحاجي مع التكميلي، فيكون إجراء القياس مطلقًا في الضروري يُؤدي إلى حَرَجٍ ومشقَّة في بعض موارده، فيُستثنى موضِع الحَرَج، وكذلك في الحاجي مع التكميلي أو الضروري مع التكميلي.

وله في الشرع أمثلة كثيرة؛ كالقَرْض مثلًا فإنه ربا في الأصل؛ لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل، ولكنه أُبيح لِما فيه من المرفقة والتوسعة على المحتاجين؛ بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلَّفين»[15].

وبذلك يتمُّ المقصود من هذا المبحث الوجيز حول حقيقة الاستحسان من واقع كلام أئمة الشأن فإن أخطأت، فأستعفر الله تعالى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.


[1] البحر المحيط (4/ 386)، دار الكتب العلمية.
[2] قال الزركشي: «قال الأبياري: الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان، لا على ما سبق؛ بل حاصله استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي، فهو يُقَدِّم الاستدلال المرسل على القياس، ومثاله: لو اشترى سلعة بالخيار، ثم مات وله ورثة، فقيل: يرد، وقيل: يختار الإمضاء؛ قال أشهب: القياس الفَسْخ، ولكنا نستحسن إن أراد الإمضاء أن يأخُذَ مَنْ لم يمْضِ إذا امتنع البائع من قبول نصيب الراد، وقال ابن القاسم: قلت لمالك: لم يَقْضِ بالشاهد واليمين في جراح العمد وليس بمال؟ فقال: إنه لشيءٌ استحسناه، والظاهر أنه قاسه على الأموال.
وقال بعض مُحقِّقي المالكية: بحثت عن موارد الاستحسان في مذهبنا، فإذا هو يرجع إلى ترك الدليل بمعارضة ما يُعارضه بعض مقتضاه، كترك الدليل للعُرْف في ردِّ الأيمان إلى العُرْف أو المصالحة»؛ (4/ 388) البحر المحيط.
[3] المسودة (1/ 104).
[4] المصدر السابق (1/ 405).
[5] المذكرة (ص 299)، محمد الأمين الشنقيطي، دار اليقين للنشر الطبعة الأولى – 1999.
[6] أصول السرخسي (2/ 200).
[7] أصول السرخسي (2/ 200).
[8] المصدر السابق (2/ 201).
[9] البحر المحيط (4/ 388).
[10] الرسالة (507)، دار الكتب العلمية.
[11] البحر المحيط (4/ 387).
[12] قواطع الأدلة (3/ 341).
[13] قواطع الأدلة (3/344).
[14]إرشاد الفحول (2/181)، دار الكتاب العربي.
[15] الموافقات (4/ 206)، دار المعرفة.

---------
المقال كنتُ نشرتُه سابقا على شبكة الألوكة:
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/128667/#ixzz6MT1XB2OG

تعليقات

الأكثر قراءة

هل رهاب الشذوذ الجنسي (homophobia) واقعي

بين "الروتين" القاتل والنافع!

عادات...تقاليد...موروث قديم...