مغامرات (أبو طلب) (4): فن الكونغ فو والفتوى عند المعلّم (أبو الطلب)

 مغامرات (أبو طلب) (4): فن الكونغ فو والفتوى عند المعلّم (أبو الطلب)

 

(...وأخيرا كبر صاحبنا (أبو طلب) وصار عَلَمًا حيث أضاف الـ التعريف إلى اسمه فصار (أبو الطلب)...)

خرج المعلّم (أبو الطلب) في سيارته الفخمة قاصدا –كعادته- غرفة الاستديو الضخمة أين أجلسُوه على كرسيّ يليق بفخامته، ويوازي ضخامته، صُنع لأجله! ويا فرحة الكائن البشري حينما يُصنع شيء مَا لأجله... ولو كان تافهًا، فقد يأتي لبعضهم شعور كأنه أسدٌ مَلَك غابةً بأجمعها، أو تمساحٌ سيطر على بركةٍ ماء في أيام الجفاف.

خرجَ واضعًا على جسمه أكوامًا من الثياب الأنيقة ذات أطراف واسعة تتخللها نسمات الصيف المنعشة في لياليه الباردة، كأنه لوحة فنية ذكّرتني بأنشودة أنشدها –بكلّ براءة- أحد الأطفال قديما مطلعُها –ليس قسَما- (...والشّمسْ الباردة! والشمسْ الباردة!!)، فلا شيء يدعو إلى الغرابة؛ فهو عنوانٌ حقيقي لاختلاف المفاهيم، واختلال الموازين، أين استحال الكاذب صادقا والخائن أمينا، وقهر المحدودين عطفًا! فهاهي الشمس -كذلك- استحالت -عند البعض- باردة.

لم أتمكن مِن صرف نظري عن هذه اللوحة الفنية، ولا قلمي عن وصفها؛ رأسه مغطى بقطعة قُماش تحسبها هيّنة ولكنّها تفوق ثمن ما تسدّ به أرملة جَوعة أطفالها لسنتين أو أكثر. إنْ رأيتَه بتلكم الصورة البهية، والطلعة الندية حسبتَه نسخة من ذِكريات ماضيك الجميل! فأنا -عن نفسي- ذَكَّرني بفلم وثائقي نقلتْه إحدى القنوات التي تعنى بالحياة الطبيعية عن طائر الطاووس المعروف بجمال منظره، وبديع مشيته، فَمِثل هذه القنوات لا تعدّ تعليمية فحسب! بل تربطك  بواقعك الحقيقي كلما تنساه، افتراس القوي الضعيف... مكر...خداع...مرواغات... وغير ذلك من السلوكيات التي انتقلت من الغابة إلى المجتمعات البشرية بلا جوازات ولا تأشيرات وكأننا في اتحادٍ يصدق أن تسميه -على سبيل المثال!-: اتحاد البشر الغابي...!

فما إن أخذ (أبو الطلب) موقعه سُلّطتْ عليه أضواء عديدة ذات ألوان بديعة يخيل إليك أنك في حفل ساخرٍ، أو سُخر حافلٍ، أين ستراه يتصدّق على السائلين والسّائلات بأكوامٍ من كلماتٍ تائهاتٍ يحسبونها مفاتيح فرجٍ لهمومهم في حَلْقة مِنْ حلقات: كل سؤال له جواب !

فهذا المعلّم قد تفوّق على إمامنا مالك بن أنس يرحمه الله تعالى الذي امتنع عن الإجابة على العشرات من الأسئلة –وهو من هو-، بينما إجابات (أبو الطلب) تخرج بسرعة جنونية تفوق سرعة صوت السّائل. والسرّ في ذلك أنه تمكن من كسر قاعدة (العلم بحر لا ساحل له) واستطاع –بكل نزاهة- اكتشافَ هذا الساحل، فهو لحدةّ ذكائه  وشدة دهائه-الذي فاق دهاء الثعلب الذي أكل دواجن جاري المسكين فما أكثرهم! - رَكِبَ مرْكبا يفوق سرعة الصّوت، فأوْصله - على حين غفلة-إلى ذلكم الساحل، و مِن ثمّ الإقامة في منتجع محاط بسياج من الكتب المزخرفة، كأنه في سباقِ العصر ليسجل - للأجيال القادمة - رقما قياسيا في (موسوعة غينس)!

والعجيب أنّك إذا ولجتَ دارتَه حسبتَ نفسك في مصنع انتاج المعلبات أو إعادة تدويرها، يُدخل من جهة أوراقا بالية أو (مستعملة) –ولا يهمّه إن كانت أصلية أو مزيّفة !-لتخرج من جهة أخرى كتبا مزخرفة يبيعها بأثمان باهضة. فالأصلية تخرج على أنها الطبعة الأولى بينما المزيفة على أنها طبعة منقحة.

فرحم الله علماءنا وأئمتنا لم يدر بخلدهم –لحظة- أنه سيأتي زمان على أقوام يتاجرون بآلامهم وتضحياتهم، يستفرغون جيوب مساكين الطلبة، فاللهم كن معهم!

...

فـالمعلّم (أبو الطلب) فريد من نوعه، وحيد في جنسه،  ليس يعجزه سؤال، ولا يقهره سائل، حياته أشبه بلعبة ألغاز، كلّما تمكّنت من فك لغز تعقّدَ غيره.  

...

ولأهمية اللّسان في الدين أردتُ يومًا من تلكم الأيام الحارة أن أقدّر ثمن الكلمة المفردة –أقصد غير المركبة- التي تخرج من نجم الشاشة وقمر الاستديو (أبو الطلب). وبعد عناء شديد لم يدم طويلاً تمكنت من عدّ الكلمات، ولكنّي فشلتُ في تقديرها. وَلحرصي على الوقتِ عدَلتُ عن هذه الفكرة السّخيفة وقلتُ لنفسي -في نفسي-: دعك من هذا الجنون واستمع للسؤال والجواب لتفوزَ بالنصف الثاني من العلم، إذْ كلنا يملك النصف الأول (...الله أعلم!)!! أوليس قولك (الله أعلم) هو نصف العلم؟!

اتصل أحد السائلين بالبرنامج ودار بينهما هذا الحوار:

السلام عليكم...الشيخ (أبو الطلب)!

نعم أنا فضيلة (ليش فضيلة؟!!) الشيخ الباحث(...كأنه تائه!) الرحالة (..ابن بطوطة! -مثلا!!-) ..(أبو الطلب)!

السائل: كيف حالك يا شيخنا؟! وحال أهل الساحل؟!

(أبو الطلب): في خير والحمد لله، والسّاحل كلّه بخير! أمن وأمان (...أين الإيمان يا شيخ!)!

السائل: يا شيخ هل هناك وصفة لأصير مثلك؟! أنا الآن أملك نصف العلم (هو يقصد –طبعا!-:الله أعلم!)، فكيف أحصل على النصف الآخر؟!

فكّر (أبو الطلب) طويلاً (–فكما يقولون!- "بالطول بالعرض"... لا بدّ أن يجيب!!) ولسان حاله كأنه يقول: أحرجني هذا السائل وأخشى أن يدحرجني! فكيف أفضي إليه بوصفة انتاج أعدّها من أسرار المهنة؟

(المخْرِج-بصوت منخفض!-: يا شيخ! يا شيخ! ...الوقت...الوقت!)

أبو الطلب: آآآ المسألة -يا بني (...الاحترام يا شيخ! فقد يكون السائل في مقام أبيك أو جدك!! وكلمة (بني!) ذكرتني برجل آخر يجلس مجلس (أبو الطلب) لم يزل في عمر المراهقة العلمية جعل نفسه والدًا للناس أجمعين...اتصلتْ به امرأة فكان يجيبها بقوله: تفضلي يا أختي!! وتارة: بيَا بنيّتي!!! وبعد البحث تبيّن أنّها في مقام جدته!!)!!

أجاب (أبو الطلب): يا بني! المسألة سهلة وليست سهلة...خفيفة وليست خفيفة...وفي حاجة إلى تضحيات...( ...والله! حيرتنا يا شيخ!)!!

السائل: هلا وضحت يا شيخ!

(أبو الطلب): أرأيت المحيط (الهادِي)؟!

السائل: نعم!!

(أبو الطلب): هل غصت فيه؟!

السائل:لا!

(أبو الطلب): اذهب غص فيه ثم اتصل بي ثانية! (...طوت...طوت...انتهت المكالمة!)

تعجبتُ من ذكاء (أبو الطلب) وشعرتُ كَأنّني أجلس أمام معلّم من معلمي الكونغ فو الذين يختبرون مريديهم بأمور غريبة نضحك منها -أحيانًا- لسذاجتنا- ولكنها -في الحقيقة- سر من أسرار فشلنا!!

وبعدَ مدة ليست بالطويلة سألتُ (المخرجَ) عن ذلكم السّائل فدلني على أحد أقاربه،  فسألته فأخبرني أن ذلكم السائل ذهب  -حقًّا- ليغوص في المحيط الهادي ولم يعد لحدّ الساعة! فصلّوا عليه صلاة الغائب!

فلبثتُ مليا  أفكّر في قوّة المعلم (أبو الطلب) وأنّه فاق معلمي الكونغ فو في الدهاء وذلك أنّ تلامذة الكونغ فو يعودون بعد غيابٍ بينما تلامذة (أبو الطلب) لا يزالون يخوضون المحيطات في هدوء!!

...

وما يزيدك قناعة أنك تقف أمام أحد حذاق هذه اللعبة أن (أبو الطلب) استعمل أسلوب التمويه للخروج من المأزق، فهو لم يقصد –في جوابه!- بـسؤاله عن (المحيط الهادي) أحد المحيطات المشهورة –كما هو الظنّ !-وإنما قصد أحد مؤلفاته المزخرفة التي أنتجها مصنعه مؤخرًا: (المحيطُ الهادي  في  معرفة الفرق بين الهادي والهاذي)!!

وخشية أن أقع في ما وقع فيه ذلكم السائل قرّرت أن أكون أذكى من المعلم (أبو الطلب) فبحثت عن بعضِ مؤلفاته فإذا هي:

(المحيط الهندي في  الكشف عن أسرار المندي)

(الأمازون في بيان خروج المرأة إلى الصالون)

(بركان بيلي في الردّ على من أساء الظن بي)

 

...وهكذا جلّ مؤلفاته ومحاضراته محيطات وأنهار وبراكين، سلاح خفيّ من أسلحةِ (النينجا) ، يستعلمه ليقذف فيها تلامذته السُذّج في ظلماتٍ بعضها فوق بعض!

(ومن لم يجعل الله له نور فما له من نور)!

تعليقات