مغامرات (أبو طلب) (5): من الرزايا ما يجلب العطايا

 مغامرات (أبو طلب) (5):  من الرزايا ما يجلب العطايا

 

لا يتدافعُ اثنانِ في أنّ بلوغَ درجةِ الإفتاءِ، وولوجَ بابِ الشّهرة العلميّة والعالمية أمرٌ ليسَ بالسّهلِ -تحصيلاً- ولا بالهيّنِ -تطبيقًا-. فبإعمال دليلِ الفطرة نجدُ أنّ هُناك فرقًا بيِّنًا بيْنَ أن تعْلمَ الشّيْء، وتُتقنَه، وتتفنّنَ فيه، وبين أنْ تُصبِحَ عالـمًا فيه، محيطًا بأصوله، جامعًا لفروعه مِنْ جَميع الجهاتِ بالنظر إلى أوجه الخلافاتِ، ولا أجدُ بَأْسًا إنْ قلتُ بأنَّ المسألةَ يحفّها إجماعٌ بشريٌ فطريٌ فلا تستغربْ.
ولكنْ! لك أن تتعجَّبَ من أقوامٍ ابتدعتْ قوْلًا آخر في المسألة يوصلك إلى هذِه الدّرجة الخطيرةِ، والمنزلةِ الرّفيعة دونَ الافتقارِ إلى الوقوفِ والتّوقف في محطّاتِ (الترَانْزيت) العلْميّة قصدَ التزوّدِ. فما عليك إلا أن تسير وَفق ضابط هذا المذْهب وهو: كن (معي) اجعلك عالما. أرَأيْت ما أسهلَ الأمر، وما أحقرَ شأنه؟
ولا يهمّطبعًا- مقدارُ العلوم التي تحْمِلُها، ولا الأعوام التي تحلُم بقَضائِها، أو التي تحمّلتَ أثقالها وأنتَ في ميادين التّعلُّم، المهمّ-عند هؤلاء- أن تلزمَ هذا الضابطَ التزامك شربَ الماء، واستنشاقَ الهواء.
والعادة المعلومة عند الفقهاء -عند بسطِ الأقوال والآراء- ذِكْرُ أسماءِ أربابها، ولكنّي سأخالفهم هَذِه المرّة وفي هذه المسألة بعيْنها، لأنَّ الأمر في غاية التفاهة والسماجة أن تذكر الأسماء، فأكتفيفقط- بالدّلالة على بعضِ أماراتهم، لتحْذرَهم وتحذّرَ منهم، أو تعتنقَ مذهبهم إنْ غلبَتْك نفسُك، وانقلبتْ عليكَ فطرتُك.
فمِما يميّزهم: التلّون بحسبِ الحاجةِ رغبًا أو رهبًا، فقد تجد الفردَ منهم اليومَ أزرقَ اللّون وغدًا أبيضَ، وربّما بعد غدٍ أخضر وهكذا، بلربما- منهم مَنْ تجده مشبَّعًا بألوان قوس قزح. فقوس قزح نوعان: سماويّ وأرضيّ، فالسّماوي الذي تعرفه، والأرضيُّ كما وصفتُه لك. لذلك ينصحُ خبراءُ السّياسة ألّا تعتمدَ على اللّون في مناداة أيِّ فرد من أفرادِ هذه الطائفةِ، فقدْ تنادِي جمًّا غفيرًا ممن اتحدتْ ألوانهم في تلكَ السّاعةِ، فيجتمعون إليك من غير قصدٍ، فيُظنَ بك أنّك تدعو إلى مظاهرةٍ سلميةٍ، ثم تتّهمُ بالخروجِ الحقيقيِّ على حين غفلة.

ولا شكّ أنّ هذا الوصْفَ قدْ طارَ بخَيالك إلى غابةٍ طافحةٍ بذاك الحيوان الجميلِ الذي اشتُهر بالتلوُّنِ بحسب المؤثِّرات الطِّبيعيّة أوالطَّبعيّةِ

....
نعم! (عشرة على عشرة )

إنها الحرباء!

هذا الحيوان الذي لا يعرفُ صديقًا ولا صاحبًا، يحبُّ العُزلةَ ويفترسُ على حينِ غفلة، ألم تقرأ قول الشاعر:

لا خير في ودّ امرئ متلون إذا*** الرّيح مالتْ مالَ حيثُ تميلُ

يمين...يمين!! شمال ...شمال!!

نعم...نعم!! لا...لا!! وهكذا...

فالعربُكعادتها في ضرْب الأمثلةِ- اقْتَبَسَتْ مِنَ الحرباء أسلوبَ تلوُّنِها ليصفُوا كلَّ حاملٍ لواءَ الغَدرِ مِنْ أهلِ الودّ، لأنَّ العدوَّ عدوٌّ والحربُ مع العدو –كما يقال- خُدْعة.

ولكنْ! مهلاً!! لم ننتهِ...

وأنا أتصوّر أصولَ المسألةِ في الخلايا الذِّهنية، وأقلّبُ فروعَها مِنْ خليّة إلى أخرى وجدتُ أنّه بالإمكانِ أن نخترعَ مَثلًا آخرَ قدْ يُدْرِجُ هذَا الحيوانَ في كتاب (غينس) للأرقام القياسية لكثرةِ مَا في سلوكياتِه مِنْ صوَرٍ فنيّةٍ، وألواحٍ تشكيليّةٍ، ولكنْ -هذه المرّة- نستلُّه مِنْ أسلوبِه في الصّيد والمطاردة.
فكما هو معلوم -عندَ مَنْ درسَ (الأحياء) أو اطّلع على سلوكِهِم- أنَّ الحرباء لا تفترس إلا بلِسَانها، ولا تكاد تسلَمُ مِنْه فَريسةٌ تطيرُ أو تسيرُ!
فهلمَّ -إذًا- نطبّق عمليّا ما يفعله خبراءُ الأمثالِ لاستخراجِ مَثَلاً نصوّرُ به كلَّ إنسانٍ لا ينجو مِنْ لِسانه إلا مَنْ كانَ مِنَ المجدودين. كأنْ نقول:
يصطاد مثل الحرباء!!

أو: لسانه كلسان (السّحلية)

 

ولك أنْ تصيغَه بأيٍّ مِنْ لهجاتِ العَرَبِ الحاليةِ، ثمّ تلحقه بكتب الأمثال العامّية مستدركًا أو مستخْرِجًا.
وإن سألتَ عن وجهِ الشّبه أقولُ:
الحرباءُ تخرجُ لسانَها ليجلبَ لها من العَطايا الطبيعية الفطرية، وهذَا الضربُ مِنْ بني آدم يخرج لسانه ليحمِّله الخطايا البشرية لينالَ (العطايا) المادية.
فالأولبذكائه- أشبعَ شهوته البطنية الفطرية، والثانيبحمقه- أشبع شهوته القلبية الشيطانية، وكلاهما مستعذبٌ غنيمتَه.
ولتبْسيطِ هذَا المثلِ نصوّره بطريقة رياضيّة:
غيبة + نميمة+ لعنة+ ظلم + احتقار+ إسقاط+تبديع+ ...= علّامة..فهّامة..والقائمة طويلة ماديا ومعنويا!

فالطّرفُ الأول: جملةُ الشرط، وهي "الرّزايا" المحمّلة بالخطايا!
والطرف الثاني: جوابُه وهي النتيجة المحمّلة بـ"العطايا"

لذا! لا تستغرب إنْ عثرتَيومًا- في كتب الأمْثال على مَثَلٍ كهذَا:  من الرزايا ما يجلب العطايا... بطله صاحبنا (أبو الطلب)!

تعليقات