حينما يتساوى عالَـمَان

 جَاء في (مقاييس) ابن فارس بأنّ الأصل في لفظة (الطفل) «هو المولودُ الصّغير»، والعرب تقول :«أطفلت المرأة» إذا صارَ لها طفلٌ»[معجم الفروق]؛ وتنتهي هذه المرحلة إلى بلوغِ الحلم، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى:«وإذا بلغ الأطفال مِنْكم الحلم».

ومِنْ قول بعض الشّعراء:

(فاضرِبْ وليدَكَ، وادلـُلْهُ على رَشَدٍ***ولا تَقُلْ: هو طفلٌ غيرُ مُحتَلِم).

 

والكثيرُ منَ النّاس يظنّ بأنَّ عالَـمَ الأطفال عالمٌ ساذَجٌ لا حظَّ له لا مِنَ الذكاء ولا من الذّهاء، وأنّهم إذا ذُكِروا فإنّهم لا يُذْكرون  إلاّ لِتعْداد متاعب الأمهات الآباء الذين كانوا هُمْ أطفالاً- في يومٍ "ما" . وفي الواقع؛ فإنَّ الواقعَ يُكذّبُ ذَلك، فعلماء هذا (العالم الصغير واللّطيف) يقرّرون بأن هذا العالم -وإن كان صغيرًا- فهو مُفعمٌ بالفِطنة والذّكاء والذّهاء.

ولأهمية هذه المرحلة مِنَ العُمر فقدِ اعتنى بها الشارع الحكيم، حيث إنّ القرآن ذكرَها في أربعة مواضع: في (النور:31؛ 59): تعليمًا الكبارَ كيف يؤدّبون صغارهم؛ وفي (الحج:5)، و(غافر:67): تذكيرًا للكبير بمرَاحل حياته. والسّنّة -كذلك- لم تهمل جانبًا من ذلك؛ كتعليم الصلاة، والتفريق في المضاجع، وحرمة الكذب عليهم، والصّلاة عليهم.

حتى إنَّ العرب في أشعارهم لم يهملوا هذا الأمر في الرّثاء والغزل والتشبيه؛ كقول القائل:

(أَصبحتُ مثلَ الطّفل في ضعفه *** تَشابه المَبْدأُ والمُنْتَهى)!

وقول الآخر:

(كعصفورة في كفّ الطفل يسومها*** حياض الردى والطفل يلهو ويلعب).

لدرجة أنّ بُكاءَ الأطفال الذي يعاني منه الكبار له مِنَ المنافع العظيمة؛ فيقول الإمام ابن القيم في «مفتاح دار السعادة»(2/ 228):«... في أدمغةِ الأطفال رطوبة لو بقيت في أدمغتهم لأحدثت أحداثًا عظيمةً. فالبكاء يُسيل ذلك ويُحْدِره مِنْ أدمغتهم فتَقوى أدمغتهم وتصحُّ. وأيضًا؛ فإنّ البكاء والعِياط يوسِّع عليه مجاريَ النّفس ويفتحُ العروقَ ويصلّبُها ويقوِّي الأعصابَ. وكَمْ للطّفل مِنْ منفعةٍ ومصلحةٍ فيما تسمعه مِنْ بكائه وصُراخِه».

والمقصودُ أنَّه لوْ لم يكن لهذا (العالم الصغير) مَزيّة خاصّة لما كان له هذا الاهْتمام، ولعلَّ الكثيرَ ممّن قد مَنَّ اللهُ عليه برحْمة في قلْبه قدْ لاعبَ الأطفالَ فلمس شيئًا مِنْ ذلك.

ولا تعجب إنْ قلتُ لك بأنَّ الأطفال قدْ وصلَ بِهُم الذّكاءُ إلى حدّ التّفرقة بين أخوّة الرّحم وأخوّة (أخرى) اقتضاها ذاك العالـَم اللّطيف؛ فأذكرُ مرّةً أنّي كنتُ أداعبُ ابنتي الصغيرة، وإذْ بها تفصحُ عمّا بداخلها تجاه أخيها قائلةً: (أُسامه مَشْ أَخُويْ؛ ورَبيعْ أخُويْ).

فقلنا لها :( (لِيشْ)؛ قالبين -طبعًا- الشّين (ثاءً) على حدِّ نطقها)، محاولين إقناعها بالقول الصّائب في هذه المسألة الخطيرة. فقالتْ مكرّرة ومؤكدة- :(ربيعْ أَخُو أُسامة؛ بَسْ أُسامة مَشْ أَخُوي مع قَلْبها لبعض الحروف خلاف القِياس؛ ممّا يجعل نطقها مضحكًا ممتعًا للسّامع)...ثمّ نامتْ ورأيُها هُوَ هُوَ على طريقة الكبار في هذا العصر .

فوقعَ في نفسي بعد هذه الحادثة- بأنَّ سلوكيات هذا العالَـم ليس مقتصرًا على الأطفال فقطْ، بل يوجد منها الكثير والكثير في عالمنا الكبير وفي جميعِ مراحله .

كيف ذاك...؟!!

فخذ على سبيل المثال (مسألة الخداع)؛ فأنت ترى بأنها مسألة يشترك فيها الطفل والكبير مِنْ جهةِ المخدوعِ ولكنْ كلٌّ حسب عَقْله وفهمه. دَعْ عنْكَ حينَما يغضبُ الصّغار فإنّك تجدهم يتلفّظون بألفاظٍ تعلّموها مِن (العالـم الكبير) مِنْ غير كدّ ولا تعبٍ.

وأمّا صاحبُ الشّهوة مِنَ الكبار؛ فتجده لا يرى شيئًا سوى ما تُـمْليه عليه نفسه الشهوانية، والتي لا يمكنها أنْ تطمئنَّ حتى تقضي وطرها وَلوْكانَ مآلها الهلاك أو إهلاك مَنْ له الفضلُ عليها. فانظرْ إلى هذا الوجهِ مِنَ الشّبهِ بين هذين العالمَينِ؛ فَكم مِنْ طفلٍ قد أهلَك نفسَه مِنْ أجلِ إخماد شهوةٍ بريئة، وربما الأمر قد يكونُ متعلقًا بصراعٍ مع قطعةٍ مِنَ الحلواء.

وفي ذلك يقول ابن القيم في «طريق الهجرتين»(ص 544):«..لكن النفس ضعيفة مهينة إذا أبصرت الحق والرشد ضعفت عن إيثاره، فصاحبها يسوقها سوق العليل المريض، كلما ساقه خطوة وقف خطوة، أو كسوق الطفل الصغير الذي تعلقت نفسه بشهواته ومألوفاته فهو يسوقه إلى رشده وهو ملتفت إلى لهوه ولعبه..».

وأمّا مَنْ وقعَ مِنَ الكِبار- في شُبهة؛ فإنّه قد ينجو منها وقد لاينجو، فهذا مرتبطٌ بمدى إخلاصه في البحث عنِ الحقِّ؛ أفلا يلتقي هذا السّلوك مع ما يفعله الطفل حينما يشتبه عليه أمرٌ ما؟ فالكبار غيرُ خافٍ عليهم حوادث العنف التي يسببها الأطفالُ للرضّعِ بسبب قيام شبهةٍ لدَيْهم في عدَم التّفريق بينَ الرّضيع الحقيقي وبين لعبة تشبهه هي مِنْ صُنعِ الكِبار.

...

 فلماذا إذًا- يُلام الأطفال على أفعالٍ الكبارُ يفعلونها؟

ولماذا يُلامون  على أفعالٍ كانَ سببها الكبارُ؟

ومَنْ يجيبُ مِنَ الكبار بأنَّ الأطفال عقولهم (صغيرة) فلا يفهمون ولا يعقلون فلذلك -نحن- نلومهم. قُلْنا لهم: هذَا جوابكم -أيضًا- على من لا زالَ يسلك (مسلك الأطفال) مع (الكبار).

وبالمناسبة فإنّ ابنتي بطلة قصّة (الأخوة الضائعة)- لما استيقظتْ صبيحةَ اليوم التالي كان لا يزال فكرُها متصلاً بحديث الأمس، لكنّها في هذه المرّة وعلى طريقة الكبارِ تراجعتْ عنْ رأيها قائلةً :(أُسامه أَخُويْ).

فياله مِنْ عالم لطيفٍ لمنْ تدبّر  أحواله.



----

نسخة معدلة

تعليقات