إشاراتٌ مِنْ ميراثِ النّبوّة حديث: (لا تعينوا عليه الشيطان...)

 

أَخْرَجَ البخاريُّ في «جامعه» مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ رضي الله عنه: قال «أُتيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم برجلٍ قدْ شَرِبَ؛ قال:« اضرِبُوه»، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمنّا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلمـّا انصرفَ؛ قالَ بعضُ القوْمِ: أخزاك الله، قال:"لا تَقُولُوا هكَذا، لا تُعينُوا عليه الشّيطان".

والحديثُ أخْرجَهُ رحمه الله- في «كتابِ الحدود» في موضعيْن؛ الأوّل في (باب الضّربِ بالجريدِ والنِّعالِ)؛ مستنبطًا منه عدَمَ اشتراط جَلْدِ شاربِ الخمر؛ والمسْألة فيها خلافٌ مشهورٌ ليس هذا محلّه، والموضع الثّاني في (باب ما يُكره مِنْ لَعْن شاربِ الخمر، وإنّه ليس بخارجٍ عَنْ الملّة)؛ بلفظ:"لا تكُونُوا عوْنَ الشّيطانِ علَى أخِيكِم"؛ جامعًا بينه وبين حديث أبي هريرة في «نفي الإيمان»؛ الذي صَدّرَ بِهِ «كتاب الحدود». وهذا الحديثُ -بلفظه الأوّل- أخرجَه عَاليًا- الإمامُ أحمدُ في «مسنده» عنْ شيخِه أبي ضمرة المدني أنس بن عياض.

والقصّةُ -هذه- توافقُ قصةً أخرى رَواهَا عمر رضي الله عنه؛ أخرجها البخاريّ -أيضًا- في الموضع ذاتِه وهي:«أنَّ رجلاً على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقّب حِمارًا، وكان يُضحك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأُتي به يومًا فجُلد؛ فقالَ رجلٌ مِنَ القوْم: اللهمَّ الْعنه، مَا أكثرَ مَا يُؤتَى بِه، فقالَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه؛ فوَاللهِ ما علمْتُ؛ إنّه يحبّ الله ورسوله»»؛ حتى أنَّ بعضَ العلماء رجّحوا اتحادهما، وقد ذَكر ابن حجر في «فتح الباري»(12/76) شيئًا مِنْ ذلك؛ فانظره!

وفي قوله صلى الله عليه وسلم (فو الله مَا علمتُ؛ إنّه يحبّ اللهَ ورسوله) خلافٌ لُغويٌّ، والرّاجحُ منه ما كانَ لا يُضادّ شهادةَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلم لذاك الصحابي بحبِّه لله ولرسولِه؛ وما سوى ذاك مِنَ الأقوال؛ فإنّها مطروحة.

فقد يقول قائلٌ: ألاَ يعارض هذا النّهيُ أحاديثَ لعن المتلبس بالخمر مِن شاربها وحاملها وعاصرها ومعتصرها وغير ذلك؟

وفي ذلك يقول ابن بطال في (شرحه) (8/ 399(: "...لا تعارض بين شيءٍ مِن ذلك -بحمد الله-، ووجه لعنته لأهل المعاصى: يريدُ الملازمين لها غير التائبين منها؛ ليرتدع بذلك مَنْ فعلها وسلك سبيلها.
والذى نهى -صلى الله عليه وسلم- عنْ لعنه فى هذا الباب قدْ كان أخذَ منه حد الله الذى جعله تطهيرًا من الذنوب؛ فحصل فى حالة مهيّئة للتوبة ورجا له التمادى على ما حصل له من التطهير وبركة أمره -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالدّعاء له، فنهى عن لعنه خشية أن يوقع الشيطان فى قلبه أنّ مَنْ لعن بحضرة النبى -صلى الله عليه وسلم- ولم يغير ذلك ولا نهى عنه، فإنه مستحقّ العقوبة فى الآخرة فينفره بذلك ويغويه". وهو أحد الأوجه التي نقلها ابن حجر في «شرحه»، وفي ذات السّياق نقلَ رحمه الله- اختيارَ شيخِه البُلقيني جوازَ لعن المعيّن المتلبس بالمعصية ضمن ضوابط معيّنة؛ فانظرها-رحمك الله!-.

وإيرادي لهذا الحديث ليس الغرض منه مناقشة مسائله المتعلّقة بشارب الخمر، وإنّما تسليط الضوء على بعض الإشارات النبوية؛ التي كِدْنا لا نراها في هذا الزمان الغريب؛ فمن ذلك:

أوّلاً: نهيه صلّى اللهُ عليه وسلم عنْ لعنِ المحدودين التائبين؛ وذلك لأنَّ الحدَّ كفارةٌ للذّنب المرتكَب؛ تابَ المحدودُ منه أو لم يتبْ. [انظر (فتح الباري) 1/68]. مما يُستفادُ من ذلك بأنّ الأمر موكل بالظّاهر لا بما بمقاصد الناس، فلو فرضنا أنّ هذا المحدود لا زال في نيّته معاودة شُرب الخمر فليس لنا هذه، وإنّما لنا شربه الأول الذي قد كفّره الحدُّ الذي أُقيم عليه. ولا يعارضُ هذا المعنى حديثُ (إنّما الأعمال بالنيات)، فانظر إن شئتَ- تفصيل الأعمال في (جامع العلوم والحكم)(1/64، 85 وما بعدها)؛ ليتضح الفارق.

والمقصود أنَّ هَذَا الفقه النبويَّ غائبٌ عنْ سُلوكيات عامّة الناس اليَوْم، بل حتى عن خاصتهم –كما يقال- وذلك بإلزامهم التائبَ ما لا يلزمه فتجدهم كي يقْبلون توبته- يشترطون شروطًا زائدة لها متعلّق بالمقاصد، أفلا يحقّ لمثا هذه التصرفات أن تدخل في حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم (فما من شرط ليس في كتاب الله؛ فهو باطل وإن كان مائة شرط)!

ثانيًا: نهيه صلى الله عليه وسلم عنِ اللعن الذي ليس في موضعه. فالواجب على المسلم ألاّ يقومَ بذلك لشيء في نفسه أو لِنفسه، فيَظهرُ وكأنّ الأمرَ صارَ محصورًا بينه وبين غريمٍ قديم.!

والنّاس في هذا الأصل النبوي بين غالٍ وجافٍ. وأسباب ذلك جمعها ابن القيم في هذا الكلام البديع في (فوائده)(353):"أركان الكفر أربعةالكِبْر، والحسد، والغضب، والشهوة؛ فالكبر يمنعه الانقياد، والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها، والغضب يمنعه العدل، والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة»... إلى أن قال..«فإنها أي هذه الأربع- تمنع الانقياد والإخلاص والتوبة والإنابة وقبول الحق ونصيحة المسلمين والتواضع لله ولخلقه".
ثالثًا: قوله صلى الله عليه وسلم (ما علمتُ؛ إنه يحب الله ورسوله)؛ فيه دليل على أنَّ المخالطة تؤثّر في الحكم على النّاسجرحًا أو تعديلاً-، وأن الذي يخالط هو أعرف الناس بالناس.

رابعًا: قوله (لا تعينوا عليه الشيطان)؛ فيه دليل على أنّ الشيطان يستعين بأعمال ابن آدم في إمرارِ سُمومه.

فالمسلم الفطن هو الذي يتمكن مِنْ إغلاق مداخل الشيطان.  وقد حصرها شيخ الإسلام ابن القيم في ثلاثٍ؛ وهي:"

 التزيد والإسراف: فيزيد على قدر الحاجة، فتصير فضلة وهي حظ الشيطان ومدخله إلى القلب.  وطريق الاحتراز منه: الاحتراز من إعطاء النفس تمام مطلوبها من غذاء أو نوم أو لذة أو راحة، فمتى أغلقتَ هذا الباب حصل الأمان من دخول العدوّ منه.

الغفلةفإنَّ الذاكر في حصن الذِّكر، فمتى غفل فُتح باب الحصن فولجه العدوّ فيعسر عليه أو يصعب إخراجه.

تكلف ما لا يعنيه من جميع الأشياء»[الفوائد: 418].

وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي:« اعلم أنّ القلبَ كالحصن، وعلى ذلك الحصن سور، وللسور أبواب، فيه ثلم، وساكنه العقل... والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم»[تلبيس إبليس: 36].

خامسًا: قوله (فلمّا انصرف)؛ وصفٌ لا يؤثّر في الحُكم فاللّعن لا يجوز والحال كما ذكرنا سابقًا- لا في زمن الضّرْب ولا بعدَه حاضرًا أم غائبًا.

سادسًا: قوله في هذه الرواية (قدْ شرِبَ): ليس فيه تحديد مقدار الشّرب، فـ(ما أسكر كثيره فقليله حرام). أمّا بعضُ النّاس اليوم فَقَدِ انتقلَ حاله -وللأسف- إلى السّؤال عنِ (النِّسبِ!) علّه يظفر بفتوى تجيزُ له (الشّرب)!
سابعًا: وفيها لطائِف مأخوذةٌ مِن قول أبي هريرة رضي الله عنه: (فمِنّا الضّارب بيده، والضّارب بنعله، والضّارب بثوبه)؛ فَمن ذلك: الإشارةُ إلى أنّ عددَ الحضور مِنَ الصّحابة قدْ تجاوز الثلاثة وذلك مأخوذٌ مِن تنوّع آلات الضّرب. ومن ذلك: أنَّ الآلات لم تكن حادة ولا ثقيلة لأنَّ الغرضَ من الضرب لم يكن القتل ولا المبالغة في إلحاق الأذى. ومِنْ ذلك: أنَّ العقوبة أمامَ الأصحاب والمعارف قد تكون مِنْ أسبابِ الزّجر.

والله تعالى أعلم !


وصلى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه


----

نسخة معدلة

تعليقات