مناقشة هادئة: السّبتُ بين صيامه قصدًا وصيامِه تبعًا
الكلامُ
في صيام السّبتِ في غير الفريضة كثيرٌ، وإذا صادف صيامَه يومُ عرفة أو عاشوراءُ ففِيه
نزاع طويل. فمعَ أن مثل هذا الخلاف السّائغِ لا يصل إلى درجة التّعنيفِ إلا أننا لا
زلنا نعاين –للأسف!- نزاعات كثيرة تسبق السبتَ بأيامٍ في الأوساط العلمية، بَل إنّ
بعضَ المجتمعات تأثرتْ فأظهرتْ النّزاعَ في الأماكن العمومية بسببِ غياب الحكمة والحكماء
فأحدثوا ضجة قوية بينَ مؤيّد ومعارضٍ في تهديدٍ صريح لوحدة المجتمع وتماسكه.
وَلسْتُ
أشكّ أنّ مثل هذِه الضجيج ناتجٌ عن غيابِ أمرٍ يغفل عنه الأساتذة وهم يؤدون أدورَاهم
التربوية أَلَا وهو تَربية النّاس على أنّ أجورَ الأعمالِ ليسَ يرتبط بتحقّق الفِعل
فحسبُ بل كذلك بالنيّة الصّادقة وعادةِ العبد، يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عَليه
وسلَّم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وفي الحديث الآخر الصحيح (إذا
مرض العبدُ أو سافَر كَتب اللهُ تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحًا مقيما).
فلَوْ
ركّزَ المعلِّمون جلّ نظرهم على الكيف لا على الكمّ وذلك بِتعليم الناس فقه الخلافِ
والأوْلويات لزالتْ الكثيرُ مِنَ النّزاعات وربما نَرى مجتمعًا خاليا من الأنانية
يشدُّ بعضُه بعضًا كالبينان المرصوص ولعلنا سنسْمع مَن يقول مثل هذه العبارات
النادرة: "إذا غلبَني الصوم فسأتصدق"، و"بدًلا من أعاود حج النّافلة
أَسترُ مُعْوزّا"، و"بَدَلا من أن أنزويَ في بيتي قائمـًا أخرجُ لأبحثَ
عن جائع"، وأبوابٌ أخرُ كثيرة لا تزال مغلقة بسبب انقلاب الأوْلوِيات...فَنحن
-في هذا الزمان- لا نرى سوى الذي يعدُّ كَم اعتمرَ! وكم حجّ! وكم ركع! وكم صام! وكم
قام! غاضّين الطرف عن عبادات أخرى –لحاجة الوقت- أكثر نفعًا وأعظم أجرًا لو كانوا
يفقهون.
ولستُ
أريدُ في هذا المقالِ بحثَ المسألة بالطريقة الفقهية التّفْصيلية فقدْ قامَ بذلك المختصون
–وفقهم الله- من معارضٍ ومؤيّد كلّ بحسب اجتهاده ولا عتب على الفريقين إلا مَن سَلك
سبيلَ التّعصب لمذهبه من غير النظر إلى أدلة مخالفه فهذَا لا ضير أن نرخي بيننا
وبينه الستائر ولا نبالي! فَسَأكتفي –بإذن الله- بإشارات على أدلّة الفريقين مع
التأكيد على أني لستُ أدّعي أنّ عملي هُو الحقّ الذي لا يأتيه باطل بَل المسألة لا
تزال خاضعة للمنازعة العلمية الهادئة مع الباحثين على الحقّ مع ضرورة التأكيد على
أنّ ما جاء في هذه المقالة لا تعدّ فتوى يعتمد عليها القارئ بل هي مجرد مناقشة
علمية تنتهي مع الانتهاء من قراءة المقال.
فأقول
–وبالله التوفيق-:
قالوا:
(قياس النهي
عن صيام السّبت بأيّامِ العِيد)
قلتُ:
هذا قِياس مع الفارق، فأحاديث النّهي عن صيام أيام العيد سالمة من أيّ اعتراض بينما
حديثُ النّهيِ عن صيام السّبت يُعارضه حديث أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها.
قالوا: ( نريدُ أن نعرفَ أحدًا بعينه من السّلف قال بعدم الجواز).
قلتُ:
أقوال العلماء من غير الصّحَابة ليستْ حجة بالاتفاق كما هو معلوم في الأصول. أفلا
يكفينا أنَّ أحدَ القائلين صحابيٌّ معلومُ الصحبة؟!
فإن
قالوا: عارضه حديث جويرية رضي الله عنها! قلنا: سقط -إذًا- هذا الاستدلال!
قالوا:
(قال
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا
مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)، وقد يوافق السّبت واحداً منها).
قلتُ:
لم يقل النبيّ صلّى اللهُ عليه وسلّم:( متتابعات) وإنما جعل صيام الستّ في أي يوم في
شهر شوال. فبطل بذلك الاستدلال بهذا الحديث لخروجه عن محل النّزاع.
قالوا: في قول النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَحَبُّ
الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا)؛
قَدْ يوافق السّبت يوم الصيام.
قلتُ:
والجواب يكْمن في التفريق بين الفعل الحكمي والحقيقي؛ فالذي نوى واجتهد في أن يصوم
يومًا ويفطر يومًا ولايفطر إلا الأيام المأمور بفطرها فهو في حكم
صيام داود. ويشهد لهذه القاعدة النبوية حديثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (من
سافر أو مرض كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما) ووجه ذلك أن هذا المسافر أو المريض عوّد
نفسَه على بعض الأعمال كقراءة القرآن وقيام الليل والصوم ولكنّ المرض والسفر منعاه
من القيام بذلك ومع ذلك جعله الشرع في حكم الصّائم وإن أفطر، وفي حكم القائم وإن
نام وكذلك الحال في صيام السبت بل هو مِنْ باب أولى.
قالوا: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى
أَمُوتَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَصَلَاةِ الضُّحَى وَنَوْمٍ
عَلَى وِتْرٍ), وهذا مطلق بأن يصوم أي ثلاثة
أيام من الشهر , والسّبت أحدها).
قلتُ:
جوابه هو ذات الجواب على حديث صيام الستّ من شوّال؛ فلا ينبغي أن نفهم منه أنّها متتاليات
فلا ضير أنْ كانت من أول الشهر أو وسطه أو
آخره فالاستدلال بهذا الحديث لا يخدم موضع النزاع.
قالوا: (صيام النبيِّ صلى الله عليه وسلم أكثر شعبان؛ فعَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى
نَقُولَ لَا يَصُومُ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ
صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ), والسّبتُ داخل فيه).
قلت:
قولنا الأكثر لا يُفهم منه دخول السّبت فلو أسقطنا أيام السبت من الشهر لبقي ستة
وعشرون يومًا أو خمسة وعشرون. فلو صام
النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من 14 يومًا
من أصل خمسة وعشرين فسيصدق القول بأنه –عليه الصلاة والسلام- يصوم أكثر شعبان وكل ذلك بالمقارنة مع سائر الأشهر
غير رمضان.
قالوا: (عنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى
اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)
و يمكن أن يصادف يوم سبت وهذا ينطبق على صيام عاشوراء فقد يصادف يوم سبتٍ أيضًا).
قلت:
أين المانع أن نقيّد هذا الحديث بحديث النهي عن صيام السبت؟ فنقول: صوموا يوم عرفة
وعاشوراء إلا إذا صادفا يوم سبت.
فقد
يقول معترض: لماذا قيّدت الحديث بالسبت وهو موضع النزاع؟
والجواب:
ولماذا أطلقت الحديث عن السّبت وهو موضع
النّزاع؟
وقد
يجاب عن هذا الحديث بنفس جواب صيام داود عليه السلام وهو: التفريق بين الفعل
الحكمي والحقيقي فالذي نوى أن يصوم ثم أفطر لعذرٍ شرعيٍّ فهو في حكم الصائم له أجر
الصائم بإذن الله تعالى.
قالوا: (صيام أيام البيض؛ فعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ
سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا صُمْتَ شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ فَصُمْ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ)؛ فقد يوافق أحد هذه الأيام يوم
سبتٍ).
والجواب
هو نفس الجواب على استدلالهم بحديث صيام داود عليه والسلام والتّفريق بين الفعل
الحكمي والحقيقي.
وبذلك
يبقى الإشكال في الجمع بين حديث النهي عن صيام السّبت وحديث جويرية رضي الله عنها فأقولُ:
من
المعلوم أن الترجيح لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع والجمع -هنا- غير متعذر. ووجه
ذلك أن نقول: لا يجوز صيام السّبت إلا إذا صيم معه يوم الجمعة وذلك لمن أراد
صيام الجمعة لا السّبت لأنّ حديث جويرية يدلّ دلالة صريحة على أنّ
الجَمع لأجل صيام الجمعة لا لأجل السّبت.
فَلا
بدّ إذًا مِن مُلاحظةِ أنّ هذا الجمع الذي في حديث جويرية رضي الله عنها جُعل
للجمعة لا للسبت. بمعنى أن الجمعة هي
المقصودة بالصوم والسّبتُ جاءَ تبعًا لها. وإذَا عُلمَ ذلك فكيفَ نجوِّزُ لأنفسنا قلبَ
الحديثِ ونجعل السّبت مقصودًا بالصيام ثمّ يُفتي للنّاسِ أنه من أراد صيام السّبت
فليضم إليه الجمعة أو الأحد؟ فحديث جويرية –رضي الله عنها- لا يصلح أن نجعله دليلًا
لجوازِ صيام السّبتِ بل لعدم جواز صيام الجمعة منفردًا لاختلاف الصورتين.
وعليه
–في ظنّي- يُقال لـمن أراد صيام السّبت: إذا قصدتَ صيامَ الجُمعة ولم تصم اليوم الذي قبله وهو الخميس يلزمك حينئذ
صيام السّبت لأنه صار واجبًا في حقِّك لعدم جواز إفراد الجمعة بالصوّم كما يدل على
ذلك حديثِ جويرية رضي الله عنها، وأما إذا قصَدتَ السّبتَ بالصّوم من غير
موجِبٍ فلا يجوز ذلك للنهيِّ الصريح الذي
جاء في حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه، والله لا يضيع أجر المحسنين.
والله تعالى أعلم.
تعليقات
إرسال تعليق