في الحديث: (...يا رسولَ اللهِ ! وما الوهْنُ ؟ قال : حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ)
تكثر في مجتمعاتنا المسلمة
عند سماع خبر وفاة شخصٍ مَا تعابيرُ غير لائقة تشير إلى مدى التعلق بهذه الدنيا
وبعضها قد يدخل في جنس الاعتراض على قضاء الله؛ فعلى سبيل المثال: لو مات شابّا يقولون:
مسكين! لا يزال في بداية العمر، ولو طفلا: مسكين! كان يحلم أن يصبح لاعبا أو مهندسا،
بينما لو كان طاعنا في السنّ: يقولون ارتاح من هموم الدنيا! كأنّ الانسان خُلق من أجل
أن يشهدَ جميع مراحل الحياة بالتَّمام وبالصورة التي رسمها لنا المجتمع الغربيّ الماديّ
لا أن يعبد الله تعالى بقطع النظر عن جنسه وجنسيته وعمره ومجال عمله.
وسبب وقوعنا –نحن المسلمين-
في مثل هذه السلوكيات راجع في الأصل إلى طريقة تربية الأبناء، والكيفية التي نُشِّئوا
عليها. فمثلاً تجدُ الآباء حريصين كلّ الحرص على تعلِّق أبنائهم بالمستقبل، فيملؤون
رؤوسهم بمصطلحات تبقى عالقة في أذهانهم، قد تتحول –في يوم ما- سببا مباشرًا من أسباب
الفشل والإحباط إذا ما أخطأ هذا الولد غرض والده.
فَلَكَ -أيها القارئ- أن تسأل أيَّ طفل: ماذا تريد
أن تصبح؟ فتكاد لا تعثر على جوابٍ بريءٍ؛ لأنّك ستعثر على أطفالٍ بألسنةِ الكبار. فلذلك يقوم الكبار بإطلاق عبارات التّأسف- تلكم–التي
فيها نوع اعتراض على قضاء الله تعالى- حينما يحضر أجلُ هذا الصبي أو الشاب، فيتأسفون
-بظنهم- على ما فاتهما من ملذات الدنيا
كما مَثَّلتُ سَابقًا في بداية المقال... فالأب يحلُم...والابن يحلم...والأم تحلم...والأسرة
تحلم...والمُجتمع يحلم.
وعلاج هذا الداء في
نظري من جهتين:
الأولى: أن ينأى المجتمع
عن العادات التي لا فائدة منها سوى فتح أبواب التعلق بالدنيا، والإغراق في ملذاتها؛
فمن ذلك: العبارات التي تقال في أفراح المواليد وغيرها: (يتربى في عزك) (إن شاء الله
تفرح فيه وتشوفو عريس) (عقبال الدكتوراه..) (عقبال تشوفو رجل أعمال!)(المهندس الصغير!)....
فمثل هذه العبارات –على براءتها- تجعل القلب محاطا بسياج من الأماني تدخله في غيبوبة
قد لا يفيق منها إلا لحظة الفراق.
الثانية: ضرورة توجيه قلوب
الأبناء إلى التعلق بالله تعالى أكثر من أي شيء آخر؛ وذلك بالحفاظ على فطرتهم، وتعليمهم
بأن الله تعالى هو المحبوب، وإرشادهم إلى السبل
الموصلة إلى ذلك كالحرص على حبّ النبي صلى الله عليه وسلم والاشتياق إلى رؤيته، وأداء
الصّلوات، وكثرة الدّعاء، وترديد الأذكار، والعطف على الأيتام والمحدودين، وإماطة الأذى
عن الطريق وغير ذلك من أعمال البرّ التي يفهمها الصغار ويطيقونها، بل تدخل السرور إلى
قلوبهم ولا سيما إذا ما قُرنَتْ بجوائز تحفيزية تليق بأعمارهم.
ومن جهة أخرى عدم ربطهم
بالمستقبل بطريقة همجية لا حكيمة ولا مسؤولة كما هو حال الغرب مع أبنائهم، فَيكفي أن
تربط الابن بحاضره فيتعلم ويجتهد بما أتيح له من إمكانيات ليواجه الدنيا بحقيقتها
فلا يكون معزولا عن واقعه، بالإضافة إلى ضرورة تنشئته على التٌعلّقَ بما عند الله تعالى،
كأن تُصوِّرَ له بأسلوب لائق وبشكل مستمر أن ما عند الله للمُسلم خير وأبقى؛ لتشتاق
نفسه إلى الذي لا يزول، ويشتد القلبُ –مع مرور الزمن- تعلقا بما عند أرحم الراحمين،
بل جميع الأعضاء تصير خاضعة لله تعالى مستسلمة لقضائه، محققا الغاية من الخلق وهي
عبودية الله تعالى. فلا يتأسّفُ العبدُ إلا على ما سيفوته من الآخرة الباقية. فإنه
لا مقارنة بين ما في الدنيا وما في الآخرة؛ فما عند الله خير وأبقى، و أن في الجنة
ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة القول أن هذا
الداء الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم بـ(الوهن) -الذي أصاب الأمة- هو بلا شكٍّ
وكما ظاهر بسبب حبِّنا للدّنيا وتعلّقنا بها على مدار الأجيال. قال صلى الله عليه
وسلم في الحديث الصحيح (يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى
عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها . فقال قائلٌ : ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ ؟
قال : بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءُ السَّيلِ ، ولينزِعنَّ
اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم ، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ .
فقال قائلٌ : يا رسولَ اللهِ ! وما الوهْنُ ؟ قال : حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ
الموتِ). فمَن الذِي يربِّى الأطفالَ
على حبِّ المال والشهرة والتفاخر بالأنساب والألقاب والأجناس؟! ......حتى فشا الظلم
والكِبر والبخل والجشع وحبّ الظهور والطعن في الأنساب والأجناس، فتأخرّتْ في القلوب
محبة الله تعالى ومحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فقلَّ الفقهً والاتباع، وكثرَ السفه
والجَهل والابْتداع؛ فصرنا أضحوكة الأمم، وطُعْمَ الأعداء والمنافقين، بعدما كنّا نضرب
أروع الأمثلة في المحبة والنصرة والأخوة الإيمانية، وخفض الجناح، والصدق والشجاعة والأخلاق
الرفيعة والاعتزاز بالدين.
والله وحدَهُ الموفِّق المُعين.
تعليقات
إرسال تعليق