السرقاتُ العِلْميّة... الدّاءُ العُضال

 قالت الصغيرة:

(أبَتاهُ! هلاَّ نمتَ قليلاً.

فقدْ تَآكل وَجْهك من العناءِ ، وهجمتْ عيناك من الإعياءِ.

...

لا تقلقي بنيّتي! اذهبي إلى فِرَاشِك لأوقظك مع منادي الفجر ولا تغتمّي... فإنَّ رَاحَةَ أبيكِ في إتمامِ هذا العملِ)

...

تَسَارعتْ الأيام، وتوالتْ اللّيالي... وأنهى كاتبُنا كتابَه... ومُحقِّقنا تحقيقَه...

 

(أَبَتاه! ما لي أراك صَامِتًا واجِمًا كَأنّك حمُّلتَ حمالة؟

أوَلم يُطبع الكتابُ؟

...

بلى بُنيّتي! طُبع ...طُبع)

...

(أَرِني كتابَك -إذًا- يا أبي؟

ألم تقل أنّه طُبع...؟)

 

نَاولها الأبُ الكتابَ مشفِقًا على ابنته التي كانتْ تتعجَّلُ نَومَها قبلَ موعدِ زِيارتهِ لِتستيقظَ وحُلْمُها قَد اسْتحَال حقيقةً، فهكذا هُم الأطْفال يتحَايَلون حتّى على أنفسِهم. تناوَلتْ يداهَا الصّغيرتان الكتابَ مِنْ يدِ الأب المرزوءِ؛ أطلقتْ بصرَها في غلافِهِ تُفَتّشُ عَن اسمِ وَالِدِها علّها تجدهُ في زاوية من الزّوايا، لكن دونَ جدْوى! فَعمَدتْ إلى ورقاتِ الكتابِ تقلِّبها بعَفْوِيةٍ، تعبثُ بها كعبثِ رِياحِ الخريفِ بأوْراقِ الأشْجارِ مؤذنةً بقربِ أيامٍ عَاصِفَاتٍ، وليالٍ عاتياتٍ: (أينَ اسمُ أبي؟!!) تخاطبُ نفسها وأنفاسُها تَكاد تقطّع أحشاءَها.

فَليسَ مِنْ ورقةٍ تُقلّبُها إلّا وتطوى معها صفحةٌ مِنْ ذاكرةِ التّاريخ لتنظرَ في أخر، فَكانَتْ كلمّا أمْعنِت النظّر، وقَلّبت البصر أخذَها الحنينُ إلى تلْكم الأيّام الجَميلةِ التي يعجزُ عن اكتناهِ مَعانِيهَا إلا مَنْ ذَاق طعمَ الرَّحمة بالضعفاءِ، والعطفِ عَلى البُؤَساءِ.

فماذا عَساها المسكينة أنْ تفعل؟ فهل تبكي على ماضٍ انقضى وانقضتْ معه الأحلامُ؟ أم تبكي الحاضرَ والمستقبلَ الذي أكَله ذِئب مِنَ الذّئابِ؟

فيا لها مِنْ صَدْمَةٍ!

 تشنّجَتْ قدَمَاهَا...

 عَيناها لا زَالتَا تقلِّبان الماضي، و تراقبان الحاضرَ...

 تستفْهم الحدثَ مِنْ والدِهَا-الذي كاد -مِن حال ابنَتِه- أن يجودَ بدم قلْبِه بَدلاً مِن مَاءِ عُيونه- بصوتٍ غير سائغٍ لا يعْبرُه إلا مَنْ ضارعها في طُفولِتها؛ فأنفاسُها تسارَعَتْ، ومخارج الحروف استغلقتْ، واشتدّ الحبسُ، وانقطعَ جريانُ النّفَس.

تنبَّهَ الأبُ الحائر، والوالد المدهوش لحالِ ابنتِه المنهوكةِ...

 (ربّاه ابنتي ! هل أفْقدها كما فقدتُ كِتابي؟)

 أسْرَع إليها...هزَّ جَسدَها الهزيلَ...ضّمها إلى صدْرهِ المكلومِ يُقبِّل شعرهَا الذّهبيَّ المتجعّد من أثرِ مضْجَعِها الذي إذَا نظرْتَ فيه، وقلَّبتَ مَا فيه، فلنْ تعثرَ على شيءٍ سِوَى أحلامٍ -ليسَ سِوَاها -:

 

(لا بأس! بُنيتي! لا بأس...!! لنا الآخرة وله الدّنيا...!!

واعلمي أنَّ هَؤلاء....إنْ أخذوا كِتابي فلَمْ يَأخذُوا صَدري...!!

فَأعِدُك ...أعدُك أن أَصْنعَ بدلَ كتابٍ كتبًا وقِصصًا أهديكِ إيّاها...و...و...!!)

 

وما هي إلّا لحظاتٌ حتّى انفرجَت عُقد الفتاة، فَلم تنشَبْ أنِ انفجرَتْ باكيةً بكاءً لا نِهايةَ له. فكم كانتْ تحلُمُ أن ترى اسمَ أبيها على ذاكَ الغلافِ؛ فقدْ كَانَ هديّتَها كَسائر صواحبها مع آبائِهم! وهو أمرٌ لا يعدُو أنْ يكونَ حُلمًا مِنْ أحلامِ الصِّغارِ التي لا يؤاخَذُون عليها، ولا يعاتَبون؛ ولكنْ...! مِنّا مَنْ يستلذُّ صَدْعَ أفئدَتِهم، ويستعذِبُ حِرمَانَهم حتَّى مِنْ أحِلامِهم.

تتوقّفُ عنِ البكاء -تارةً- ، وتثوب إليه -أخرى- لِترسمَ بماء عيونِها لوحاتٍ فنيّة معبّرة عن مآسي المحْدُودِين، ومعاناة المحرومين.

....

(مَا الفرق يا أبي...! ما الفرق بيني وبين ابنة هذا الذي سَرقنا؟!

فَهل يحقّ له أن يغتالَ فرحَتي ليهديَها ابنَته؟!

أليستْ طفلةً مِثلي، تحلُمُ كَما أحلم؟!

لماذا يا أبي؟! لماذا يا أبي؟!! لماذا...؟!!! لماذا يحرمني هذا السارق من هديَّتِي؟!

ألأننا ضعفاء لَا حولَ لنا ولا قوّة؟!

...)

 

لَـم يُفلح الأبُ –هذا المؤلّف الحقيقي- مِن كِتمانِ المكنونِ؛ لِتفضيَ به عَيناه، وتُرْسلَ –هي الأخرى- ما تبَقّى مِنْ شؤونها؛ فقدْ ألـمَّـتْ بِهِ مصيبتان: مصيبة سرقةِ جهدِه، ومصيبة حال ابنتِه التِّي كادَ أن يفْقدَها مِنْ شدّة الارتماض الذي أحاطَ بسويداء قلبها الطفوليّ. فَهي لـم تَقْوَ عَلى تحمّل صَدمةِ وجودِ لُصوصٍ مِنْ هَذَا الضّرب في عالمنا الكَبير! ظّنَتْ أنَّ وُجودَهم مقتصرٌ عَلى الأسواق وأمَاكن الوضاعة، ولم يدُرْ في خَلَدها أن يمْتهنَ هذه السّفالة أناسٌ مِن طبقةِ متعلِّمةٍ.

 

فَيا أيّتُهَا الفتاةُ! لا تُغادِري، وابقَيْ شاهدةً على حادثةِ أَبِيك...!!

 

...

 

وأنتَ أيها المؤلّف المرزوء ! والمخرجُ التراثَ المصابُ:

 أعْلمُ أنني فَتحتُ عليكَ جرحًا ما كان ينبغي فَتْحه، لم أصْنعْ ذلك لأسْتمِع إلى آهاتِك، أو أسْتمْتع بِأنَّاتِك؛ ولَكنْ لأُسْمعها مَن أوصلَك إلى مَا أنتَ فيه مِنْ حُزن، وما تعانيه من ضيق. فعلتُ ذلك لأنقلَ لهؤلاء الذّئاب الجياع عَبراتِ تِلكم الصغيرةِ المكلومة بِأَبيها، المحرومةِ من أحلامها؛ فَإنّي لا أجدُ ما يُناسبُ بشاعةَ أفعالهمِ، وشناعةَ أعمالهم إلّا أن تُقطعَ دونهم قنواتُ العِلْم، وَيحالَ بينهم وبين جميعِ ما ألَّفوا، وصَنَّفَوا.

فَهذا هو العدْل الذي أراه يُلائِم هؤلاء المتسلِّقين – على حين غفلةٍ!-على العِلْم وأهله مَهْما كبُر الاسم، و عظُم الرسم، ومهما عَلا القلم وغلا الرّقم، وإلّا نفعله تكن فِتنة وفسادٌ كَبير؛ وَ -ربّما-لا نصابُ بابنة أوابنتين بل بجيلٍ كاملٍ من أبنائنا منهم مَن لا يزال في طوْر الفطام.

 

فيا أيها المتعلّم!

 

هلْ أمثالُ هؤلاءِ الذين اجتمعَ فيهِم الخداعُ والخيانة وحبّ الظهور وأكل الأموال بالباطل يُؤخذُ عنهم العِلم النبويَّ الشريف؟! فهل مثل هؤلاء ننظر في مؤلّفاتهم، وننتظرُ تحقِيقَاتهم؛ ونحنُ على علمٍ يقينيٍّ أنَّ العَملَ ليسَ لهم؟!

وَهل أمثال هَؤلاءِ نعزو إلى كُتبِهم، ونرْقُم على الهوامشِ (بِتَحْقِيقِ فُلان) أو (بتأليف عِلان) حتّى إذا وقفَ على عَزونا صاحبُ العمل الحقيقيّ زدناه همًّا فوق همّ، وغمّا فوقَ غمّ؟

لا يا طالب العلم! احذر أن تصنع هذا!!

وَإيّاك ثمّ إيّاك أن تغفلَ عنْ حقيقةٍ شريفةٍ وهي: أنّ هذَا العلمَ شريفٌ لا يصلح إلا للشّرفاء الذين لا يَعرِفُون الكذِبَ والخداع.

فَلا تتردّد -أيها المتعلّم- في اكتناه الحقائقِ مَهما كان قدْر هذا الذي تواجِهه؛ فالأمرُ قد بلَغ من الخطورة ما بَلَغَ، فَلا يحتمل الاعتذار، ولا البحثَ عن الأعذارِ، ألَستَ تقرأُ قولَ نبيِّك صلى الله عليه وسلم (انصرْ أخَاكَ ظَالـمًا أو مَظْلومًا)؟

فإنْ حدثَ وأنْ هابَتْ نفسُك مواجهةَ ذاك المخادعِ فإنّي لا أجدُ ما يُسلّيكَ إلّا أنْ ألْقيَ عليك هذه القاعدة النبويّة الخطيرة التي بِها تُجابِه أمثالَ هذِه الوقائعِ؛ وهي قوله صلى الله عليه وسلّم:(لو أنَّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها)! وهي سيّدة نِساء أهل الجنة...فمنْ يكونُ ذَاك السّارق الذي لا تَقوَى على الإنكار عَليه رغبةً أو رهبةً أو ادِّعاءَ مصلحةٍ؟

 

أيها المرزوء!!

 

أعْلمُ أنّكَ كُلَّما استرجَعْتَ قِصصَ أحزانِك استرجعَ لِسانُك، وأنْشأ يَدْعُو على ذاكَ الذِي سَرَق جهدَك، واغْتالَ قلمَك، وصَدّع فؤادك. وأمّا إن كنتَ قد تَركتْنَا ورَحْلتَ إلى حيثُ لَا عمل! فإنَّ الشّرفاء سيَذْكرون قصّتك، ويكتنهون مُلابَساتِها، وسَيقِفون عندَ لَحدِك ليبَشِّروك بِعودةِ الحقِّ الضالّ؛ (فالمسلم أَخُو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه...) فَلَا تحزَن!

 

وأنت أيها المحتال... الظّالم...!!

 

كَفاك تصديعًا للقلوب، وتجريحًا للأفئدة، ألم تسأل نفسَك: لماذا تسرقُ جُهد غيرِك؟!

فهل تشكو فقرًا ؟! أم جهلًا... ؟! أم مَرضًا... ؟!

...

وَيكأنّك عَثَرتَ على تخريجٍ فقهيٍّ، ومسوِّغٍ شرعيٍّ...؟

 

فإن كنتَ فَعلتَ ذلك مِنْ جَهدِ الأولى؛ فـ(من يستعفّفْ يُعفّه الله، ومَنْ يستغْنِ يُغْنِه اللهُ، ومَن يتصبَّرْ يُصبّرْه الله)!

و(ليتَ شِعْري! عَلى مَاذَا يحصلُ المسكينُ الذِي يطلبُ العِلْم لِيحظى بِه في دُنياه؟! واللهِ ! لا حصلَ مِنْ ذلك إلا على دُنيا منغصَّة، ولباسٍ خشِن، ولذّات يستتر بها استتار الغراب بسفاده ولا يتهنّاه موفّرة، وعلى ما توفى نفسه مِنها.ولو طلبَ الدّنيا على وجهها لكانَ أنفذَ لأمره، وأعظمَ لجاهه، وأكثرَ لماله، وأوفرَ للذّاته وأتمَّ لهيْبته، وأقلَّ لوزره، وأخفَّ لعذابه) [ابن حزم: أنواع العلوم (ص 47)].

 وإنْ كانَ مِنْ بَلاء الثانية؛ فـ (إنّما العِلم بالتعلّم)، وهُوَ لَا يَضيعُ إلّا مِنْ كِبر ماردٍ، أوْحَياءٍ بارِدٍ.

 

وأَمّا إنْ كنتَ مليئًا عَالِـمًا تمتهِنُ هذِه السّفالةَ لمرضٍ نفسيٍّ، وعرضٍ عقليٍّ؛ فعليك بقَطْعِ الأسباب المهيِّجة، فأمْسكْ –شَفَاك الله!- عنِ التّأليفِ، وَصُمْ –عافاك الله!- عنِ التِّصنيفِ، فإنَّ الكتابةَ مِنْ أعظم مداخلِ إبليس إلى قُلوبِ أهْلِ العِلْمِ. وَإيّاك أن تَلتَفِتْ إليْها حتّى يطمئنَّ قلبُك، ويغلبَ على ظَنّك أنّ أطْماعك قدْ وَجَبَتْ مِنْ حيثُ لا يُمكنُها البُزوغ.

 

فَاتّقِ اللهَ وسارعْ إلى ردِّ حُقوقِ الفِكْر إلى أصحابها–تحقيقًا- و-تأليفًا- قبلَ أنْ يُكشفَ الحجابُ عن صفحاتٍ سوداءَ؛ إنْ أبْرِزتْ فلنْ تَكونَ كالتِي مَضَتْ...؟

فإنّه مَتى تُفتَحُ صفحةٌ بِحَدِيثِها وَأحْدَاثها فلَنْ تُطوى دُونَ إتْمامِ الغرضِ، وقطعِ السّبيلِ عن فريقٍ يترسَّم خُطاكُم، وآخر يَعْرِف وَلَا يُنكِر!

وحِينئذٍ! لا أظنّك ستجدُ مَا تَنضحُ به عن نفسِك، وتُدافع بِه عن قَلمك.

 

ولك أنْ تعدّ هذه النَّصيحةَ أَوّلَ خيوطِ الفَجرِ الصادقِ!

 فـ(يا أيها الذِينَ آمَنُوا اتّقوا الله وكُونوا مع الصَّادِقِين)!

 

---

نسخة معدلة.

تعليقات

الأكثر قراءة

touch wood , cross finger, Jesus (Christ!)...

مناقشة هادئة: السّبتُ بين صيامه قصدًا وصيامِه تبعًا

البرّ لا يبلى.. والإثم لا يُنسى والديان لا يموت.. فكن كما شئت (كما تَدين تُدان)