مواجهة الرُّهاب (الفوبيا)- الحلقة الأولى: تحليل التجربة

 

مواجهة الرُّهاب (الفوبيا)- الحلقة الأولى: تحليل التجربة


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد؛ ففي هذه المقالة سأتطرق إلى مسألة جدّ هامّة، وحديث الساعة إذ ابتلي بها الكثير من الناس في مجتمعاتنا في هذا الزمان "عصر الثورة الإعلامية"و "انقلاب المفاهيم والموازين" وهو "الرّهاب" بشتى أنواعه ولا سيما المتعلق بمواجهة المخاطر إذ الكل يرجع إلى أمور مشتركة. وإني إذ أكتب في هذا الأمر فلست أكتبُ من واقع مقالات طبية أو اجتماعية المبثوثة في الواقع الافتراضي، بل هو من واقع تجارب شخصية طويلة جدًّا جدًّا مع هذه المسائل، فأحببت مشاركتها مع من يهمه الأمر علّها تساهم في شيء من التغيير الإيجابي، على قاعدة عجائزنا  المباركين (اسأل امْجربْ ولا تسأل طَبيبْ)!

فالرّهاب من خبرتي هو قلق شديد يجعلك تتردد أو تحجم عن خوض تجارب طبيعية ذات أخطار أو مخاوف يخوضها غيرنا من البشر بكل يسرٍ، إلا أنّ المصاب يدخل في صدمة من التفكير فيعمل قدر الإمكان على اجتنابها بحثا عن الأمان حمايةً لنفسه كما هو الظن.

فلماذا قلتُ "القلق" ولم أقل مباشرة "الخوف"، لأنَّ مسألة "الرهاب" -بجميع أنواعه- في حقيقتها ليستْ خوفًا وإنما قَلق واضطراب، لكنّه لما اشتبه عند المصاب بالخوف "الطبيعي" صارَ يوصف بذلك. فتجد مَن يصاب بالرهاب يقول لك: أخاف من المرتفعات؟ أخاف من عبور الجسور؟ ومن السياقة في الطرقات السريعة؟ ومن المنحدرات؟ والأماكن المغلقة؟ وركوب الطائرات؟ ومواجهة الناس؟ وغير ذلك من الأشياء التي يقوى عليها البعض، بينما الآخر لا يستطيعها مع أنّ الطرفين من جملة البشر يمتلكان ذات الأشياء وذات الطبيعة. ونتيجة لذلك تجد المصاب يحاول جهدَه الابتعاد عن المواجهة ليختار السبيل الأصعب ظنًّا منه أنه هو الأسهل، وإذا ما اضطُّر إلى ذلك فيَدْخل في عاصفة من القلق ودوّامة من الحسابات والتخيلات التي تؤثر على بعض الوظائف العضوية كتسارع دقّات القلب وضيق النفس وارتعاش الأقدام بل يشعر مع بعض الأحيان كأنه سيموت!

لا أريد هنا أن أدخل في تفاصيل كلِّ حالةٍ ولكن يكفي –في هذا الجزء- تحليلها من واقع خبرتي فجميعها مشتركة في القلق الشديد ومحاولات التجنب والوصف بالخوف! فظني أنه بتبسيط المسألة إلى أجزائها ستسهل معالجة الحالات  -بإذن الله- سواء بالنفس أو مع مختصين في المجال!

إنَّ العامل المشترك لهذه الأشياء هو الخوف مِن خطرِ "المجهول" الموجود في مخيلتنا كخطر السقوط أو الموت أو الحرج، فلذلك تجد المصاب –شفاه الله- يحبذ الأماكن الواسعة والأرض المسطحة والطرقات الفرعية والهدوء والانعزال وكل ما يشعره –ظنًّا منه- بالأمان. وقد تتطور الحالة إلى حد ملازمة البيت وعدم الخروج منه إلا نادرا خوفًا من خطر ذاك "المجهول(!)" فيعطّل بذلك سيرَ حياته كأنَّ به قد أصابه وسواس "الموت" من حيث لا يدري. فإذا ما وصل العبد إلى مثل هذا الحد فإنّ حالته بلا شك قد وصلتْ  مدى لا بد فيه من مراجعة النفس والتدخل العلاجي السريع ليعود إلى حالته الطبيعية والفطرية تدريجيا، وأداء نشاطاته اليومية.

قلتُ إنَّ العامل المشترك لهذا النوع من الرهاب هو الخوف من خطرٍ مجهولٍ يتخيله المصاب عند كل مواجهة سواء في ذهنه أو في واقعه، فيعمل على حماية نفسه مجتهدا في البحث عن "الأمان" وليس "الراحة". سنعود إلى معرفة الفرق بين الأمان والراحة ولكن دعنا الآن نتعمق في تحليل هذا الخطر المسمى بـ"المجهول":

كلّ الأشياء التي يهابها المصاب تحتوي بكل تأكيد على أخطار، لكن السؤال الذي من المفترض أن يخطر في تفكيره: هل هذا الخطر متيقن تحققه أم هو مجردُ تخيلاتِ وقوعٍ؟

ولنأخذ مَثلًا عبورَ جسور المشاة من باب التوضيح فقط: لا شكّ أنَّ الجسر يحتوي على العديد من الأخطار كانهياره أو السّقوط منه. ولكن السؤال: ماهي احتمالية انهيار هذا الجسر؟ وما هي احتمالية سقوط العابر؟ فبحسب الواقع: تكاد النسبة تكون منعدمة في الحالتين؛ بمعنى: أنه –في عُرفِ البشر- لا خطر يُذكر. فلذلك على المصاب سؤال نفسه وإقناعها: هل سقوطك من الجسر أو تهدّم الجسر أثناء العبور متيقن تحققه؟ أم لا؟

فالجواب هو ذات الجواب السابق: فمثل هذا الاحتمال يكاد ينعدم، فلذلك يعبره الآلاف يوميا رجالا ونساء وأطفالا، بل بعض الجسور تسير تحته السيارات دون سماع أي حادث، ولو وقع شيء من ذلك فإنه جد نادر...فإذًا وفي حقيقة الأمر "لا خوف حقيقي مطلقًا".

ودعني أضرب لك مثلا آخر أكثر وضوحًا: لا شك أن البشر جميعهم يسكنون في بيوت وعمارات لو تنهار فوق ساكنيها لأهلكتهم جميعهم. فَانظر إلى هذه المعادلة، فمع وجود خطر الانهيار -لسببٍ ما كزلازل وغيرها- إلا أننا جميعنا متفقون على لزوم السّكن فيها مهما كان ارتفاع المنازل. فلو طبقنا نظرية "الرّهاب" هنا فإننا سنحمل البشر جميعهم على السكن في العراء لحماية أنفسهم من خطر الموت بالانهيار!!

فهل ترى ذلك معقولا؟

طبعًا لا! وألف لا! ولو في الأذهان...لأنّ البشرَ يحتاجون إلى بيوت تستر خصوصياتهم وتقيهم حر الصيف وبرد الشتاء، ثمّ إنّ احتمالية الانهيار كما قلنا سابقا تكاد تنعدم، فلذلك لا يأبه البشر لمثل هذه النسب النادرة ويقبلون ركوب مثل هذه المخاطر: فيبنون العمارات ويسكنونها، والجسور ويعبرونها، والطائرات ويركبونها، والطرق السريعة والمنحدرة وغير ذلك لأنهم على دراية أن نسبة حدوث المخاطر نسبة مقبولة في حياة البشر كَيْ تستمرّ حياتهم.

وبقليلٍ منَ التّفكير نجدَ أن الأمر غير متوقف على الجسور والطرقات فهو ذاته مشابه لركوب الطّائرات والسيارات واختراع الآلات الكهربائية والإلكترونية والغاز والكهرباء وغير ذلك، فكلّها تحتوي على مخاطر لكنها قابلة للتعامل والتكيف معها.

وأعجبني جواب أحدِ محترفي تسلق الجبال (المرتفعات) حينما سأله أحد المذيعين: هل تخاف المرتفعاتِ؟ قال –وهو يضحك-: نعم! ولكن "احترِسْ فقط ألا تسقط". فانظر إلى جوابه، فطبيعة البشر جميعهم يخافون المرتفعات وخوض المخاطر التي لو تحققت فإنّهم لا يملكون -من واقع طبيعتهم البشرية- أساليب تحميهم من خطر الموت أو خطر الإصابات البليغ، كإمكانية الطيران الذاتي أو امتلاك جلود تحميهم من خطر الصدمات وغير ذلك. فأمعِن النظر مرة أخرى إلى جوابه: "تأكّد من أنك لا تسقط". بمعنى -في لغتنا-: "خذ بمتطلبات السلامة ثم توكل" طالما الأمر متاح للبشر وضمن إمكانياتهم.

ولمزيد من التوضيح دعنا نضع بعض القواعد التي أراها تناسب هذا الجزء من المبحث مع بعض الأمثلة:

1.   الحياة كلها مخاطر لكنها قابلة للخوض والتفاوض: مثل السكن في البيوت والعمارات، وبناء الجسور، والطرقات، وقيادة السيارات والطائرات والباخرات والقطارات، واستعمال الآلات، والغاز وغير ذلك...

2.   فرِّق بين وجود خطرٍ ما وبين التيقن من وقوعه: فإذا تيقن البشر من وقوع خطر مَا فإنه لا أحد منهم سيخوضه، وهذا أمر مغروس في الفطرة الطبيعية، بينما إذا كان الخطر ضمن الحدود المقبولة فإنهم يتعاملون معه؛ ففي مثال عبور الجسر أقول: طالما الجسر بُني ليعبره البشر فتوكل على الله واعبره فالله حسبك وهو نعم الوكيل، ولن يصيبك إلا ما كتب الله لك. وهكذا الشأن في سائر الأشياء التي لها مخاطر مقبولة، مثل: السكن في البيوت والعمارات، وركوب الطائرات والمصاعد وغير ذلك، كلّ ذلك لتستمرَّ حياة البشر. وأما عن خوض بما يسمى "المغامرات" فكثير منها تهور وهو خارج عن موضوع الرُّهَاب.

3.   فرِّق بين طلب الشعور بالأمان وطلبِ الرّاحة: فعلى سبيل المثال: عندما تعبر جسرًا فقدْ لا تشعر بشيء من الراحة وهو أمر طبيعي، ولكن بالنظر إلى الأمان فإنّ "الأمانَ" موجود، فليس من داع لجلب تلك الهواجس بدواعي حماية النفس. فهذا الأمر يشبه قول الناس اليوم "لا أشعر بالراحة إلا في بيتي" مع أن الأمان موجود في سائر البيوت التي يذهبون إليها.

والمقصود أنّ هناك فرقا كبيرا بين طلب الشعور بالراحة وطلب الأمان لحماية النفس من الأخطار. وهكذا اسحب هذه القاعدة على ركوب الطائرات والمصاعد والسير في الطرقات السريعة والمنحدرات وماشابه ذلك؛ نعم! قد لا يشعر الإنسان بالراحة إلا أنّ حدّ الأمان المطلوبِ متوفّر –بإذن الله- فلا داعي للقلق الشديد.

4.   وبالمقابل هناك فرق كذلك بين "الخوف" و"عدم الشعور بالراحة": أي حينما لا تكون مرتاحًا في استعمال شيء مَا لا يعني من ذلك أنه مخيف لدرجة خطر الهلاك (بمعنى انعدام الأمن)، فتقوم باجتنابه ظنا منك أنك في مهمة لحماية النفس، بينما في الواقع أنت تشدّد على نفسك وتقوم بتعذيبها، فلا تحيا تلك الحياة الطبيعية كسائر مَن حولك مِن البشر –نساء ورجالا وأطفالا- الذين يستعملون ذات الأشياء ويواجهون ذات التحديات وهم مطمئنون ويضحكون ويمرحون.

5.   وأخيرا: خذ بمتطلبات السّلامة ثم توكل؛ أي حينما ترى لافتات تحذيرية أو قواعد السلامة التزم بها لحماية نفسك وحماية الآخرين، ثم استعمل ذاك الشيء دون تردد لأنه متاح لك ولغيرك من البشر.

وبعد هذه الجولة العقلانية أجد نفسي أطرح هذا السؤال: ما سبب وجود مثل هذا "الرهاب" ؟ والمتمثل في "الخوف والبحث عن الأمان لحماية النفس".

دعني أجيبك بما يناسب هذا الجزء الأول من المقال فأقول: لا شك أن البشر كلهم يشتركون في الخَلق والطبيعة البشرية، فيخافون ذات الأشياء التي تؤدِي إلى هلاكهم، وبالمقابل يهتمون بالأشياء التي تساعدهم على النمو والاستمرار وعمارة الأرض وإن كانت فيها نوع مخاطر وتحديات. ثم ماذا يحدث؟ أو ماذا حدث حتى يصاب أُناس بمثل هذا "الرهاب" والذي كله يدور في حلقة "حماية النفس"؟! ...مِنْ ماذا؟ مِنْ مخاطر مقبولة لدى البشر قابلة للتحكم، لا تستحق كل هذا العناء من التفكير؛ فَهُم من صنعها بمقاييس معينة للاستعمال ضمن ضوابط معينة.

وللإجابة على ذلك لنرجع قليلا إلى الوراء إلى فطرتك أو زمن طفولتك؛ فهل كنت تخشى ما تخشاه اليوم؟ أو هل ولدت تخشى هذه الأمور؟ فإذا أردت التأكد من ذلك فانظر إلى صبي، فستجده مليئا بالنشاط والهمة والشجاعة وهو يعبر الجسور المرتفعة ويركب الطائرات ويلعب بالمصاعد صعودا ونزولا، وبآلات اللعب المرتفعة وغير ذلك غير آبه بشيء.

فهكذا كان جميعنا بالفطرة...ولكن مع مرور الزمن وازدياد الوعي بالمخاطر بدأ الانقسام وظهرت معه المخاوف من ذات الأشياء التي كنا نستمتع بها ونحن صبية. وقع كلّ ذلك بحثًا عن ماذا؟ عن الأمان؟ ولماذا؟ لحماية النفس!

أمعن النظر في كلمة "البحث عن الأمان" و"حماية النفس"، فكأنّ الأمر متعلق بتجارب خضناها ونحن صبية أو في زمن معين جعلتنا أو أعطتنا الإحساس بالخوف وعدم الطمأنينة، ومع تكدس الحوادث ولا معالج أو متابع لجأنا إلى سياسة "الهروب والاختباء"، وبتكرارها عبر تسلسل الزمن تطوّرَ هذا الإحساس تدريجيا وانتقل إلى الخارج، حتى أصبحنا نخاف كلَّ شيء يقترب منا، فلا نختار المواجهة بل نحاول قدر الإمكان الابتعاد واختيار ما نظنه يعطينا ذاك الشعور بـ"الأمان". فكأن ذاكرتنا لا تزال تربطنا بتلك التجارب القوية التي شاهدناها أو سمعناها أو واجهناها، فترغمنا على إخراج الشعور بالخوف إلى الواجهة عندما نواجه أي شيء نظنه خطرا واقعًا مع أنه غير متيقن الحدوث وأن الأمر برمته مجرد أوهام.

وبمعنى آخر عندما نرى جسرًا –على سبيل المثال- نتردد في عبوره كأنك تقول في نفسك: "أخاف أن أعبر الجسر فأقع وأهلك مثل ما جرى يوم كذا وكذا لما خفتُ وهربت. أوْ عندما كانت والدتي تمنعني من اللعب في الخارج خوفا أن أموت أو أصاب، أو أخاف أفلام الرعب التي شاهدتها، أو تأثير توجهات ورغبات المجتمع أو غير ذلك من تراكم الأحزان والأوهام..."؛ إلا أنك في الواقع لا تتذكر تلك الصدمات أو التجارب غير أنها لا تزال محفورة في الذاكرة مما تسببت في تغيير "طريقة التفكير الفطرية"، ثم قام بتحفيز ظهور آثارها على الجوارح تجاربٌ مغايرة في المكان والزمان، متشابهة من حيث وجود الأخطار والمخاوف.

فكما قلنا سابقًا هي أخطار تكاد لا تقع أو لا تقع إلا بشروط "=قواعد السلامة" قَبِلَها البشر وتعايشوا معها –بإذنه تعالى-...فيسكنون البيوت والعمارات ويلعبون خارج البيوت وبآلات اللعب، ويستعملون المركبات برا وبحرا وجوًّا وفي الفضاء الخارجي، ويبنون الجسور المرتفعة والبنايات الشاهقة والمدارس والمستشفيات الضخمة، ويواجهون بعضهم البعض وغير ذلك لتستمر حياتهم...وإلا كما قلنا سابقا لو استعملنا نظرية "الرهاب" والبحث عن الأمان بتلك الطريقة "غير الطبيعية" "طريقة الاختباء والبحث عن الأرض المكشوفة والمسطحة" لظل البشر منعزلين في العراء أو قل: لانتهت البشرية... والسّلام!

...فإذا كان هذا "الرهاب" لا يزال مصرًّا على "مصاحبتك" فانتظرنا في الجزء الثاني بإذن الله حينما نتكلم عن "المواجهة" الواقعية بأسلوب مغاير عما ألفناه، يلمس الأسباب الحقيقة ويشمل جميع أنواع "الرهاب" والمخاوف والاضطرابات النفسية. وفي الجزء أيضًا بعض الكلام عن "الرُّقية" لمعرفة الخلل الشائع الذي نقع فيه...جميعنا.

والله وحده الموفّق!

تعليقات

الأكثر قراءة

touch wood , cross finger, Jesus (Christ!)...

مناقشة هادئة: السّبتُ بين صيامه قصدًا وصيامِه تبعًا

البرّ لا يبلى.. والإثم لا يُنسى والديان لا يموت.. فكن كما شئت (كما تَدين تُدان)