دور البطانة بين الأمانة والخيانة

 مسألةُ البطانةِ مِن المسائل الهامّة في كيفية علاج الكثير من القضايا مهما كانت طبيعتها، فأحببتُ أن أسلط الضوء عليها لأن الكثير منا يهمل هذا العامل في البناء فيحمّل مسؤولية ظهور سلوكيات سلبية على البرآء من النّاس لينتشر الظلم ويفشوَ الجهل، بل منهم من يرى الكلام عن البطانة أو التعوذ من سوء البطانة مِن التعدي على الأشخاص. فإلى البيان:

 

حديث البطانة وبعض الآثار عن السلف:

يقولُ قائِدُنا وقدْوتُنا ومعلّمُنا وسيّدُ علمائِنا نبيُّنا صلّى اللهُ عليه وسلم : «إنَّ الله لم يبعث نبيًّا ولا خليفةً إلا وله بطانتان:

بطانةٌ تأمره بالمعروفِ وتنْهاه عنِ المنكر .

وبطانة لا تألوه خبالًا.

ومَنْ يُوقَ بطانة السوء فقد وُقِيَ».

هذا هو (حديثُ) البطانة كما تراه صريحٌ بلزوم وجودِ بطانتين حَولَ نبيٍّ أو خليفةٍ (=ولي أمر)، إحداهما تأمر بالمعروف والأخرى بعكس الأولى.

وهذا اللزوم مأخوذٌ مِنْ قولِ النّبيّ صَلى الله عليه وسلم (إن الله لم يبعث نبيا ولا خليفة إلا وله...)، فَهُوَ استثناء يفيد الحصر والتّوكيد والتحقيق.

يقول الطحاوي في «شرح مشكل الآثار »(5/ 360) بعد تأمّل منه –رحمه الله-:« وجدنَا الأنبياء صلوات الله عليهم يدعون النّاسَ إلى ما أُرسلوا بِه إليهم؛ فيكون ذلك سببًا لإتيانهم إياهم وخُلطتهم بهم حتى يكونوا بذلك بطائن لهم.

وتستعمل الأنبياء في ذلك في أمورهم ما يقفون عليه منها؛ فيحمَدون في ذلك مَنْ يقفون على من يجب حمده بظاهره فيقرّبونه منهم، ويعدّونه مِنْ أوليائهم. ويباعدون منهم من يقفون منه على ما لا يحمدونه منهم ويعدونه من أعدائهم والله أعلم بما يبطن ممن يعرفونه مَنْ حمد ومَنْ ذمّ، ثم يوقف الله عز وجل أنبياءَه على ما يوقفهم عليه مِنْ باطنهم؛ كما قال عز وجل لنبينا صلى الله عليه وسلم (وممن حَوْلكم مِنَ الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم) الآية.

فهذه البطانة المذمومة التي لا تألو مَنْ هي معَه خبالاً، والبطانة الأخرى هي التي يوقفهم الله تعالى على ضدّها وعلى ما هي عليه لنبيّها كما أوقف الله عز وجل نبيِّنا عليه الصلاة والسلام على ما أوقفه عليه من أحوال المؤمنين به من تعزيرهم إياه ونصرتهم له واتباعهم لما يجب أن يتبع به، كما قال تعالى (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) "انتهى. ثم راح –رحمه الله- يفصّلُ الفَرق بين غلبة بطانة الأنبياء وغيرهم.

 

خطورة البطانة السوء

ومن شِدّة خطورة البطانة المذمومة كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتعوذ منهَا كما جاء في الحديث الصحيح: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنّها بِئسَتِ البطانة»؛ فالخيانة قد تكون مِنَ العبدِ نفسِه أو مِنْ غَلَبة بطانته المذمومة.

فمَنْ مِنّا الآن يجرؤُ أن يتعوّذَ بالله مِنَ الخيانة أو أن ينصح غيرَه بِذلك ؟! (وخيرُ الهديِ هديُ محمّد صلى الله عليه وسلم)...

 

ذِكرُ البطانة في القرآن

ومفهوم البطانة وآثارها ورد أيضًا في القرآن الكريم، فمِنْ صُورِ المذمومة ما حصل من زوجة نبيِّ اللهِ لوط عليه السلام، فجاءَتْ عقوبتُها مِنْ جِنْسِ عقوبةِ قَوْمِهِ. وأمّا المحمودة النّاصحة؛ فمِنْ صورِها: إبراهيمُ عليه السلام مع أبيه آزر، وكذا سحرةُ فرعونَ لما آمنوا بموسى نبيًّا وبالله ربًّا.

فهل نقول بأن القرآن يطعن –والعياذ بالله- في الأنبياء لأنه كشف عن سوء بطانة بعضهم؟! (ربّنا لا تزغ قلوبنا بعدَ إذْ هديتنا).


وشعراء العرب كانوا يتغنّون بالبطانة المحمودة.

قال شاعرهم: ( ونحن خيارُ النَّاسِ –طُرًّا- بِطانةً ... لِقَيْسٍ وهُمْ خيرٌ لنا إنْ هُمُ بَقُوا )

وفي «العقد الفريد» (1/5): (سُئل بعض أهل التمرس بالحرب : أي المكايد فيها أحزم؛ قال : إذكاء العيون، وإفشاء الغلبة، واستطلاع الأخبار، وإظهار السرور، وإماتة الفرق، والاحتراس من البطانة من غير إقصاء لمن يستنصح؛ ولا استنصاح لمن يستغش واشتغال الناس عما هم فيه من الحرب بغيره ).

وجاء في أمثال العرب: من فَسَدَتْ بِطَانَتُهُ كَانَ كَمَنْ غَصَّ الْمَاءَ.

 

البطانة عند علماء الحديث

وعلماء الحديث -كذلك- لم يُهملوا هذا الأمر إذْ إنَّ وجودَ البطانة السّيئة حَوْلَ المحدِّثِ قَدْ تكون من أسباب القدح في مرْوِيّاته:

ففي كتاب «المجروحين»(1/ 98) لا بن حبان قال-وهو يعدد أنواع وأسباب الجرح-: « النوع الرابع عشر قال أبو هاشم : ومنهم من امتحن بابن سوء ، أو وراق سوء كانوا يضعون له لحديث وقد أمِنَ الشيخ ناصيتهم ، فكانوا يقرؤون عليه ويقولون له: هذا من حديثك فيحدث به، فالشيخ في نفسه ثقة إلا أنه لا يجوز الاحتجاج بأخباره ، ولا الرواية عنه.لما خالط أخباره الصحيحة الأحاديث الموضوعة»، ثم ذكر رحمه الله تعالى جماعة منهم.

و كمثال علمي عملي في (ميزان الاعتدال) للذهبي (2/ 173) في ترجمة سفيان بن وكيع قال:

« قال البخاري: يتكلمون فيه لأشياء لقنوه إياها.

وقال أبو زرعة: يُتّهم بالكذب.

وقال ابن أبى حاتم: أشار أبى عليه أن يغير وَرّاقَه، فإنه أفسد حديثه وقال له: لا تحدث إلامن أصولك.

فقال: سأفعل.

ثم تمادى وحدث بأحاديث أدخلت عليه».

 

عذر أقبح من ذنب:

فبالرُّغم مِنْ أنّ الحديث صريحٌ في المسألة والعمل به عند عامّة العلماء إلا أنّ البعض إما أنهم يَردّون العمل به مطلقًا، أو يردونه عن أنفسهم ويثبتونه على غيرهم. وهذَا الفِعلُ مِنْهم تحكّمٌ مذموم في النّصوص والعُقول.

 

مثلٌ شعبيٌّ: "الزائد أخو الناقص"

فأمثالُ هؤُلاء الذِينَ يَرُدّون العملَ بالحديثِ قَدْ يدخلون –والعياذ بالله تعالى- فيمن يكذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم إذْ لا فَرقَ بين أن تُقَوّلَ النّبيَّ صلى الله عليه ما لم يقله، أو أن تنفيَ عنه ما قاله–لفظًا أو مَعْنًى - ؛ فِكَلاهما كذبٌ وخيانة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:( مَنْ كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)!

 

استراحة مع درسٍ مِنْ أمّنا العالمة عائشة رضي الله عنها والبطانة المأمونة:

فعن أبي عطية قال: دخلتُ أنا ومسروق على عائشة رضي الله عنها؛ فقال لها مسروق:

رجلان مِنْ أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم كلاهما لا يألو عن الخير؛ أحدهما يعجّل المغربَ والإفطارَ والآخرُ يؤخّر المغرب والإفطار.

فقالتْ: مَنْ يعجّل المغربَ والإفطارَ ؟

قال: عبدالله –أي ابن مسعود-!

فقالتْ: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصنع».

 

وفي ذلك فائدتان –فيما له متعلّق بالمسألة-:

1. في قول مسروق (كلاهما لا يألو-أي لا يقصر- عن الخير)؛ وفيه أنّ البِطَانة المحمودة لا يهمّها -عند الخلاف- الفضح و لا القدح ولا الاسقاط ولا التعالي و لا التعالم!

2. وأمّا سؤال أمّنا عائشة (من يعجل المغرب والإفطار؟)؛ ففيه ذكاء وفطنة العالم، فهي لم تسأل عن الطرف الذي خالفَ السّنّة وإنما عن الموافق وذلك لغرض:

الأولى: تأديب السّائل بالتستر على المخالف.

والثانية: بيان العمل من غير تطويل؛ فديننا دين علم وعمل وحرص على الأوقات.


فهكذا يجب تربية وتأديب البطائن ولا سيما عند نقل الأخبار .... انتهى الدرس!

 

وَ(مَنْ يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقالَ ذرة شرًّا يره).

 

والحمد لله أولا وآخرا

تعليقات

الأكثر قراءة

touch wood , cross finger, Jesus (Christ!)...

مناقشة هادئة: السّبتُ بين صيامه قصدًا وصيامِه تبعًا

البرّ لا يبلى.. والإثم لا يُنسى والديان لا يموت.. فكن كما شئت (كما تَدين تُدان)