هل أنت حرّ: جنون الإسراف إلى أين؟

 

مَا أهلكَ أهلَ هذا الزمان إلا الإسْرافُ، الذي حمَلهم على أن يبخلوا غيرَهم...فجمعوا بين خلتين مذموتين: الإسراف والبخل! فاستحالُ الغنيُّ مهما بلغ غناه فقيرًا تائهًا. فالعاقل لا يرى هذا الصنف إلا دَاخلًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أصبح وهمه الدنيا فرّق اللهُ عليه شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتبَ له).

فها هو الإسرافُ نراهُ يصِلُ بنفسٍ لا يتعدى احتياجها اليومي حفنة طعام ولتر شراب وقطعة قماش الآلافَ المؤلفة من الدراهم والدنانير والدولارات. فماذا تأكل مثل هذه النفس التي أصابها سعار الإسراف؟ وماذا تلبس هذه النفس التي أصابها جنون الإتلاف؟!

أوْ: ماذا تركتْ لبني جنسها من الضعفاء والمستضعفين الذين لولاهم لما كان هناك تاجر و لا بائع ولا مشترٍ؟!

فكلُّ يومٍ من أيام هذا الزمان العجيب يطلّ علينا بجديد الإسراف؛ إسراف البخلاء، وإفلاس السفهاء متجاوزين كلّ شيء له صلة بشيءٍ اسمه إنسان، وإنسانية، وبشر، وبشرية، بله الأخوة الإيمانية...فماذا ينبغي أن يكون جواب المتعلم العاقل حينما يرى -مثلًا- طعامًا يُطبخ بطبقة من الذهب الخالص؟ فماذَا عساه أن يكون جوابه؟

فهل سيبحث في –هذا المقام- على جواز استعمال قليل الذهب دون كثيره؟ أم ينبغي عليه أن يتكلّم بكل قُوّة -ولو من باب سد الذرائع- عن هذه الجُرأة التي ضربت بالإنسانية عرض الحائط فضلاً عن الأخوة الإيمانية بين الفاعل وإخوانه المعوزين ؟!

فهل ترى –أيها العاقل- أنّ هذا المقام مقام (قليل الذهب من كثيره)؟

وهل هذا مقام الحاجة إلى (قليل الذهب)؟

فأستطيع أن أتذكّر حينما ظهر قبل زمنٍ التفنن (الموضة) في الألبسة والأجهزة الإلكترونية والسيارات والساعات بطلائها بالذهب الخالص..أجاز البعض مثل هذه الأفعال مدخِلًا إياها في باب (جواز قليل الذهب)، تاركين الكلام من جهة أخرى عن حُرمة الإسراف والبذخ، وعن وجوب احترام النِّعم وغير ذلك من المواعظ حتى يتوازن لديهم الخطاب فتتوازن بذلك أفعال الناس. وبهكذا خطاب أحادي الجانب انتقل الأمر -ومن غير استئذان- من (قليل الذهب) إلى الاستعمال بكميات أكبر وبصور أبشع، بل انتقل إلى إحدى ضرورات الحياة وهو الطّعام...أعزّ شيء يفتقر إليه البشر لتستمر حياتهم. هذا الطعام والشراب الذي صيره البعض –وبشكل جنوني- وسيلة ترفيه بدَلا من أن يكون وسيلة لسدّ جَوْعة، ودفع عَطشة لتكمّل هذه النفس مسيرتها في الحياة وتحقيق المطلوب منها.

ولكنْ! هو هذا حال أكثر المتصدرين للفتوى والتعليم والتربية في هذا الزمان لا يراهم العاقل يملكون فقه المآلات، ولا فهم الأولويات، ولا توازن في الخطاب، ليفسحوا المجالَ لولوج باب الفتوى والتكلم في مسائل العلوم والأحكام الشرعية لمتسَلّقينَ متهورين أنانيين وذي الأجندات الشخصة والخفية ليس همّهم سوى الشهرة وإرضاء الجمهور والمال والحرية المطلقة.

ولا ندري! ماذا يخبّأ لنا هذا الزمان من جديد الصّرعات، و قديم الصراعات؟

ولستُ أشكّ أن الفاعل لو سألتَه لماذا تفعل ذلك؛ فسيكون جواب بعضهم: أنا حر...هذا مالي...وهذه بطني...وهذه سيارتي...وهذا قلمي...وهذا حذائي...وهذا بيتي...وهذا ابني...وهذه أرضي، وهذه شركتي...وو

وأنا أجيبه فأقول: لَا خلاف كون هذه الأشياء هي لك، ولكني أختلف معك في مسألة الحرية، فأنت في الواقع لستَ حُرًّا الحرية المطلقة كما تظنّ، لأنّ كل هذه الأشياء التي تملكها هي من عند الله تعالى وأنت عبد له، وهو الذي أعطاكها وتفضل بها عليك دون الكثير من الخلق ليبتليَ خلقه.

قال تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم)...فأنت كما ترى حريّتَك محدودة بحدود الله، فما أنت فاعل؟

فـإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين).

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات

الأكثر قراءة

touch wood , cross finger, Jesus (Christ!)...

مناقشة هادئة: السّبتُ بين صيامه قصدًا وصيامِه تبعًا

البرّ لا يبلى.. والإثم لا يُنسى والديان لا يموت.. فكن كما شئت (كما تَدين تُدان)