سؤال: لماذا الإنصاف عزيزٌ؟ والجواب: لأنَّ الحقَّ ثقيل
يدَّعي الكثير
مِنَّا محبّة الحقِّ والبحَثَ عنه، ويُمَنيّ نفسه وغيرَه من بني جِنسه أنه متَى عَثر على ذلكم الحقّ صاغَ إليه، وأذعن
له. ولكنْ! عندَ هبوب رياح الامتحان تجده مِنْ أبعدِ النّاس عن سلوك الجادّة،
وبرِّ دَعْواه، بَل تجده مِنْ أجرئِهم على البَاطل، ومن أكذبهم عند اللقاء.
* فما سرّ المسألة ؟
هوى
العبدِ عند الخصامِ إمّا أن يكون تبعًا للكتاب والسّنّة أوللشّيطان، فإن كانَ تبعًا
للكتاب والسّنّة فإنّه لن يتهاون في إنصافِ خصمه، ولن يجبنَ بالاعتراف بحقِّه؛ فهذا
سبيل المحسنين قولاً وفعلاً.
وأمّا إن كان تبعًا للشّيطان فإنه سيغُلّب دَعوى
من دعاوى الجاهلية، كالعصبية لجنسه أو نسبه أو عشيرته أوشيخه أو رأيه أو غير ذلك
من الأمور التي نهانا الشرعُ الدّعوةَ إليها. فلنا أن نقول -كَما أوصانا بذلك
نبينا صلى الله عليه وسلم- لمثل هذا المتعصب المتلبّسِ بالعصبيّة: (من تعزى بعزاء
الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكْنوا)! فليس المحلُّ محلَّ خجل، ولا موضع حياء كيلا
نَجهرَ بمثل هذه الوصايا النّبوية التربوية.
* من أجوبته: (وأنا
كذلكم على حق...)
فهَذه
إحدى أجوبة الخصم –الظالم- مَتَى
ألجمته الحجج، وطوقته البراهين العقلية والشرعية. تجدُه يواجهك بمثل هذه العبارات
الباردة: (إذا كنتَ ترى نفسك على الحق، فإنّ غيرك يرى نفسه كذلك على الحق). فهذَا
نوعُ إلزام مُزج بسخافة، وخلط بسماجة، ويكأنَّ قائلَه يستخفّ العقلاءَ، ويستدرجُ
البلهاء في مسائل لا تحتمل سوى الخطأ أوالصواب.
فكيفَ له
فعل ذلك وهي مسائلُ الحقُّ فيها فردٌ لا يتعدد؟
فبماذا
عسى صاحبُ الحقّ أن يدفعَ مثل هذَا الالزامِ الباطلِ؟ وَلا سيما إذا كانَتْ المواجهة مع ذي سُلطة علمية أو إعلامية،
تحفّه بِطانة غير ناصحة أفعالها تناقض أقوالها؛ فَربّما صاحبُ الحقّ يُقضىَ عليه مِن
بداية المعركة.
ففي مثل
هذه الحال ينبغي على صاحبِ الحق -أولاً-:
الصّبرَ، واحتساب الأجر، ولْيعلم علم اليقين أنه ما مِنْ شيء رُفع مِنَ الدّنيا
إلا وحقّه أن يوضع كما أخبرنا بذلك نبيُّنا صلى الله عليه وسلّم. ثمّ -ثانيًا-: إن استطاع مواجهةَ خصمه فليواجهه بِلغته،
ويحاوره بأسلوبه. ومتَى رأيتَ تَناقضًا ظاهرًا مِنْ الخصم، فاعلم أنّه على باطل
شاءَ أم أبى! فليسَ مِن جريمةٍ كاملةٍ كما يُقال؛ فَالمجرمُ قبل أن يغادر ساحة
الجريمةَ لا بدّ أن يتركَ وراءَ ظهره دَليلَ إدانته، وَلَوْ ملأ الدّنيا بما قد
يظنه من المسوّغات (=المراوغات) لإخفاء تناقضاته. فَليس عمله هذا سوى هدْرٍ
للأوقات، وإسقاط للحسنات. وفي مثل هذه المواقف قيل : (ما يضر الحق تسمية أهل
الباطل إياه باطلاً، كما لا يضر السيف تسمية أهل الجهل إياه خشبةً)؛ فامضِ يا صاحب
الحقّ وَلا تحفَل بما يردّده خصمك –الظالم!-.
* مِنْ حُججِه: (يُخْفِي الحقَّ للمصلحة...)
ترى مثلَ
هذا الظالمِ يتمادى في غيِّه مع يَقينِه بِضعفِ حُجَجِه، فيلجأُ ليسترَ باطلَه إلى
الاحتجاجِ بأنّ المصلحة العامّة، وهي في الحقيقة ليست مصلحة بل مآرب خاصة تقتضي منه إخفاءَ الحقِّ؛ فيُصيِّر نفسَه عالما بالمقاصد،
بَلْ وعاءً مِنْ أوعيةِ العلم بالمصالح والمفاسد.
فيا
لَلغرابة! تُنتهك الحرُمات، وتقطّعُ أواصرُ الأخوة بدواعي جلْب (المصالح العامة)، ثم
وبلمحِ البصرِ يُلصَق إلى تلكم العبارة لفظة: (شرعية)؛ لتُؤوَّل الواقعةُ إلى= (مصلحة
عامّة شرعية)!
أبِمثلِ
هذه الأساليب الملتوية تصادر الحقوقُ –أيها
العقلاء-؟!
....
وبَعدُ؛
فيا مَنْ
أُكل حقّه على موائد الظَّالمينَ؛ اتقِ الله واصبِر فـ(إنّ الله مع الذين اتقوا و
الذين هم محسنون)!
وَلستُ أشك أنّ الدّائرةَ سَتدور على أمثال هؤلاء الظالمين، وتنقلب تلكم الموائد على رؤوسهم حينما يَسقط الحقّ عليها بثِقَلِه؛ فيلتفتون يمنة فلا يجِدُون إلا صور ظلمهم، ولا يلتفتون يسرة فلا يرون إلّا مثل ذلك؛ فالظلم إذا أحاط بالظالم طوّقه بأغلاله مِن جميع الجهاتِ، فلا يرحل عنه حتى يجعلَه يسبح في ظلمات بعضها فوق بعض، يبْحثُ عن أمل نجاة فلا يجد سِوى صرخات يطْلقها يفرّج بها عن نفسه من شدّةِ ما يجدُ مِن الألم في ساعة قد لا ينفع فيها ندم : (يا ليتني أنصفتك أيها الخصم)!
(والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
تعليقات
إرسال تعليق