"أنا عبد مأمور"...حينما يتبرأ المتبوع الضالُّ المضِلُّ مِنْ تابعيه
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فإنَّ
الله تعالى أنزل كتابه القرآن ووَعد بحفظه من التحريف والزوال –كلامًا ومعنًى-، بخلاف
سائر الكتب التي سبقته والتي لم يبق لها أثر سوى أسمائها. فلا يزال هذا الكتاب
العزيز مهيمنًا محفورًا في المصاحف والصدور. وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومَن
عليها كما وعد، فهو الذي قال عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "ألا أيها
الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما
كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به..." وهو بيان مِن
نبيّ هذه الأمة أنّ كتاب الله تعالى لم ينزل ليبقى حبيس المصاحف، وسجين الصدور كما
يريد البعض –بقطع النظر عن النوايا- حيث نجدهم يهدرون أَنفس الأوقات ويصرفون
الأموال في التنافس على مجرد حفظه وزحرفته وطبعه، بل هذا القرآن أُنزل ليُفهم ويُعمل
به لنحيَا الحياة العادلة السّوية التي أرادها الله تعالى لنا على جميع الأصعدة
حيث قال تعالى: (ومَا خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وقال رب العزة والجلال: (كتاب
أنزلنه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)، ولو لم يكن مقصود هذا
الكتاب كذلك لـَمَا اهتمّ العلماء "الحُفّاظ" بتفسيره وبيان ألفاظه وشرح
معانيه وتوضيح تطبيقاته التي ظهرت على أرض واقعهم فوازنوا -بذلك- بين الحفظ والعمل،
فعائشة رضي الله عنها حينما سُئلت عن خُلق النبيّ صلى الله عليه وسلم أجابتْ
باختصار بليغ: "كان خُلُقه القُرآن". فأين نحن من هذا المقياس؟! فهل يستطيع
أحدنا اليوم أن يقول أنَّ أمتنا المسلمة –بجميع مستوياتها ومسؤولياتها- أخلاقها
القرآن !
وللتأكيد
على مسألة التطبيق العملي فسَأقوم في هذا المقالة القصيرة بجولة تأمّلٍ قصيرةٍ في
قوله تعالى: (إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا ورأوُوا العذاب وتقطّعت
بهم الأسباب)؛ فهذه الآية البليغة -من سورة البقرة- حينما يقرؤها العبدُ الصّادق المجِدُّ
تجعله لا يتردد في فتحِ مذكّراته لفحصِ سابق أعماله ونبش مفكراته ليُراجع ويتَراجع؛
فينظر نظر المسؤول الوَاعي، ويتفكر ما سيلاقيه يوم العرض من أهوالٍ مِنْ لحظة تسليم
روحه إلى بارئها سائلًا نفسه: هل أعماله جاءت وفق أوامر الخالق أم رغبات المخلوقين؟
وهل جاءت وفق تعاليم القرآن أم خلاف ذلك؟
ولتقريب
المفهوم نأخذ مثالا منتشرا في واقعنا: فبعضُ الناس ممن سلّم أمره للمخلوقين –حينما
يُنكَر عليه- تجده يبحثُ عن أعذار ويفتش عن مسوغات هنا وهناك ليغطي ما اقترفت يداه
من باطل فيقول لك مَثلا-معتذرا-: "أنا عبد مأمور"!!!
فَلَربما
تجده يطْرد هَذا من عمله ثمّ يقول "أنا عبد مأمور"، بل من بيته وأرضه ثم
يقول "أنا عبد مأمور"، وتجده يعنّف ذاك بحجة "أنا عبد مأمور"
و...و...و... والحجة دومًا "أنا عبد مأمور!"
فمن
أمره بذلك؟ ثمّ هو عبدٌ لـِمَن؟
ثم
مَنْ "هو" هذا الذي ينصّب نفسه كأنه إلـه من دون ربنا سبحانه وتعالى
حتى يعطي أوامر باطلة غير قابلة للنقض البتة؟ ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول (إنما
الطاعة في المعروف) وقال تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على
الإثم والعدون) ...
ومن
هو هذا الذي يغفل حقيقة أنّ الخطأ ورده وتصحيحه من طبيعة البشر، ويغفل عن أنّ الكمال وحده لله
الواحد الأحد؟!
فليس
مِنْ شك أنّ قولَ البعض (أنا عبد مأمور) في مقام تسويغ الظلم أقبح من ذنوبهم وذلك من
أكثر من وجه: الأول: استعمال عبارة مغلوطة لتسويغ الظلم وتمرير الباطل. والوجه
الثاني: أن الإنسان حرّ عبد لله تعالى، ليس للمخلوق فلا يجوز استعمال هذه العبارة
البتة في مثل تلك السياقات. الوجه الثالث: أن الله تعالى جعل للإنسان عقلا يميز به
بين الحق والباطل وبين المعروف والمنكر.
وليُعلم
أنَّ كلّ عبد مَهْما عَلَا شأنه –اجتماعيا أو ماديا- سيكون مسؤولا عن نفسه يوم
القيامة قال تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم
ما خولناكم وراء ظهوركم) فلا روابط بين تابع ومتبوع ولا بين آمر ومأمور لأنّ
الكلّ منشغل بهول الموقف، والكل يسعى لإنقاذ نفسه من الهلاك الأبدي...فجميع العلائق
التي كان تربط الناس بعضهم ببعض قد انقطعت وزالت:
فلا
مصالح شخصية...
ولا
أموال...
ولا
شركات...
ولا
عقارات...
ولا
مناصب...
ولا
أنساب...
ولا
شفعاء (واسطات!)...
ولا
كذب...
قال
ابن القيم في شرحه للآية السابقة مبيٍّنا طبيعة هذه العلائق:"هي العلائق التى بغير الله ولغير الله تقطعت بهم أَحوج ما
كانوا إليها، وذلك لأَن تلك الغايات لما اضمحلت وبطلت اضمحلت أَسبابها وبطلت، فإِن
الأَسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل باضمحلالها، وكل شيء هالك إِلا وجهه سبحانه،
وكل عمل باطل إِلا ما أُريد به وجهه. وكل سعيى لغيره باطل ومضمحل، وهذا كما يشاهده
الناس فى الدنيا من اضمحلال السعي والعمل والكد والخدمة التى يفعلها العبد لمتولٍ
أَو أَمير أَو صاحب منصب أَو مال، فإِذا زال ذلك الذى عمل له عدم ذلك العمل وبطل
ذلك السعي ولم يبق فى يده سوى الحرمان"[طريق
الهجرتين (ص 12)].
بل
إنّ الحسرة ستعلو وجوه التابع والمتبوع بالباطل –على حدّ السواء- على ما فرّطوا في
زمن العمل وفي وقتٍ كانت لديهم الفسحة للتفكير والفرصة للتغيير وسماع أصوات
الصالحين المصلحين وآهات الضعفاء والمظلومين؛ قال أبو الفداء الخلوتي في كتابه "روح
البيان (3/ 376)": "والخامس أن متابعة القادة
الضالة أورثت الحسرة كما قال تعالى "إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا ...إلى
قوله....كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ". وحتى التبرؤ في مثل هذا الموقف لا ينفهعم
شيئًا فلو كان قبل طوي صحفهم لربما كان الأمر مختلفًا؛ قال أبو بكر الجزائري في
"أيسر التفاسير (1/ 134)":
"تبرؤ رؤساء الشرك والضلال ودعاة الشر والفساد ممن
أطاعوهم في الدنيا واتبعوهم على الظلم والشر والفساد، وليس بنافعهم ذلك شيئا".
والمقصود
من هذه العجالة أن يحذر العبد –تابعًا أو متبوعًا- مهما كان منصبه أو موقعه- من الوقوع
في مثل هذه المزالق، وليُحَكّم عقله قبل أن تأتيه ساعة لا ينفع فيها عمل ولا ندم،
وعليه أن يجعل غايته الأسمى هي إرضاء الله تعالى باتّباع كتابه وسنة نبيه صلى الله
عليه وسلم، فهذا هو الاتباع الحق الذي لا تكون عاقبته في الدارين إلاخيرًا وأمْنًا
وأمانًا!
وصلى
الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
تعليقات
إرسال تعليق