وجهة نظر: مفهومُ الرّحمة بالجاهلِ والصّغير
عنوانٌ لا يمكنُ للواحدِ معرفةَ معانيه إلا إذَا أدخلَ اللهُ تعالى الرّحمةَ إلى قلبه؛ ويدلّنا إلى شيء من ذلك حديثُ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم لما حمل ابنَ بنته- وهو يجود بنفسه- ففاضتْ عيناه الشريفتان؛ فقال سعدٌ(1) رضي الله عنه: «ما هذا يا رسول الله؟»؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده؛ وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»؛ وفي لفظ:«في قلوب من يشاء».
وسأضربُ
مثلاً أبيّن لك به مقصودَ مقالي:
انظرْ إلى
الأطفالِ وهم يلعبون ويتشاجرون؛ بل تجدُهم في غالب أحوالهم يضحكون ويمرحون مهْما
اشتدّتْ أحزانُ الكبار؛ فما لسانُ حالِك وَهُمْ في الحال التي ذكرتُها لك؟
مِنَ
المؤكَّد أنّك ستشعر بالأسى عليهم وتقول: يا للأطفال! لا يفهمون شيْئًا؛ بل قدْ
يسبقك الدّمعُ فيعجزُ اللّسان.
أو انظرْ إلى
طفلٍ يده مشلولة لا يدْري كيف يحرّكها وهو يريد ذلك ولا يسأل عنها، ولو سأل عنها؛
فكيف تجدُك؟
ثم انظر إلى
كبير بمثل حاله؛ أتجد في نفسك وأنت تنظر إليه ما تجده وأنت تنظر لذاك الصغير؟
لماذا يا ترى
اختَلَفَ وجْدك والحال واحدة؟
والجواب: لو
فرضنا -جدلاً- أن ذاك الطفلَ الصّغيرَ مميّز للأحوال عارفٌ بمآلاتها وأنّ ذاك
الكبيرَ فاقدٌ عقله لا يميّز؛ بل يتصرفُ تصرّفَ الأطفال؛ فانظرْ إليهما فهل تجد في
قلبك الذي كنت تجده في المثال الذي ذكرته لك سابقًا؟
إذًا
ليست المشكلة في صِغر السّنّ أو كبره-مع إنّي لستُ أشك أن الصّغر له من التأثير،
فالإنسان من طبعه يشفق على كلّ صغير له ما يشاكله –من الكبار- مِنْ حيث التكوين؛
وإنّما المشكلة -كذلك- في تمييز الحال وتقدير المآل؛ فها قد استوى عندك الطفلُ
والكبيرُ بمجرد اشتراكهما في عدم التمييز والتقدير.
ألستَ تُسمّي
عدمَ التمييز والتقدير جهلاً كما أُسمِّيهِ؟
فالطفل
-لجهله حقائقَ الأمور- تجدُه يَعطفُ عليه ويَنظر إليه بعين الرحمة الكبيرُ أو مَنْ
يفوقُه في الإدراك، وهذا كذلك واقع من الكبير لكبيرٍ فاقدٍ أدواتِ الإدراكِ ليجهلَ
هو كذلك ما حوْله من الحقائق.
إذًا فَمِنْ
دواعي تَراحم العباد مع بعضهم البعض هو الجهل؛ والرّحمة متى دخلتْ قلبَ العبدِ
تجدها تزداد عنده بازدياد إدراكه لحقائق الأمور بالنظر إلى من ضَعُف إدراكُه.
فاللهُ
تعالى خَلَقَ الخلْقَ وجعلَ لهم أدواتٍ لِيدْركوا بها واقعَهم ومواقعَهم رحمةً منه
-سبحانه- بهم ؛ ثمّ لم يتركهم تائهين- بَلْ أرسل إليهم الرّسلَ والأنبياء –رحمة بهم
كذلك- ليخرجوهم -بالعِلْم- من الظلمات إلى النور ومن الجحيم إلى الجنان، فكان
آخرهم رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى:«وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» .
ورحمةُ
نبينا صلى الله عليه وسلّمَ تتجلّى في خوفه على أمّته وحِرْصه على هدايتهم؛ فها هي
أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تقولُ:« نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الوصال رحمةً لهم».
وفي
أَحَد خُطبه صلى الله عليه وسلّم وهو يعظ صحابته يقول: «عُرضت عليَّ
الجنة والنار فلم أرَ كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً
ولبكيتم كثيرًا».
والحديث
يدلنا إلى أنّ العلمَ سببٌ مِنْ أسباب الرّحمة -وقد سبقتْ الإشارةُ إلى هذا المعنى
-؛ فلو عَلِم الصّحابةُ ما يعلمُه النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الحقائق
لبكَوْا، وهذا النوع من البكاء لا يكون إلا إذا كان في القلب رقّةٌ ولطافةٌ، وهي
من لوازم الرحمة؛ وقد سمّى النبيُ صلى الله عليه وسلم البكاءَ رحمةً وجعله من
الدلائل عليها.
وفي هذا
المعنى قولُه تعالى في حقِّ مَن آمن مِنْ أهل الكتاب: «وإذا سمعوا ما أنزل إلى
الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق»؛ وهذا نوع مِن البكاء الذي
كان سببه العلم النافع.
وليس لك إلا
أن توافقني بأن ما سبقَ ذكرُه من الأحوال التي تستدعي رقة القلب لا يكون سببه إلا
وجودَ الرحمة في قلب العبد بسبب ما حصل له من العلم؛ يقول شيخ الإسلام في
«الاقتضاء» في معنى قوله تعالى (أولئك سيرحمهم الله):«فإن الله يجعل للمؤمنين من
الرحمة في قلوبهم وغيرها؛ بما يجدونه من حلاوة الإيمان ويذوقونه من طعمه وانشراح
صدورهم للإسلام إلى غير ذلك من السرور بالإيمان والعلم النافع والعمل الصالح بما
لا يمكن وصفه».
ويقول السعدي
في «تفسيره» عن ذاك الصنف من أهل الكتاب الذي ذكرته لك قبلُ:«والعلم مع الزهد
وكذلك العبادة مما يُلّطفُ القلبَ ويرقّقه ويزيلُ عنه من الجفاءَ والغلظة».
فإن قلتَ:
قَدْ عَلِمْنا بأن البكاء على الميْت هو من الرحمة وهذا بنص الحديث؛ فما دليلك على
أن البكاء حين سماع العلم النافع هو كذلك؛ فهلْ تريدُ أن تدلّل بأنَّ الخشوعَ من
الرحمة؟
قلتُ:
أرأيتَ قولَ الله تعالى (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة..)الآية؛ فإن
شيخ الإسلام الثاني -ابن القيم- يقول فيها شارحًا:«وشبّهَ بالزّجاجة لأنها جمعتْ أوصافًا هي في
قلب المؤمن وهي: الصفاء والرّقة؛ فيرى الحق والهدى بصفائه، وتحصل منه
الرأفة والرحمة والشفقة برقته، ويجاهد أعداء الله تعالى ويغلظ عليهم ويشتد في
الحق ويصلب فيه بصلابته ولا تبطل صفة منه صفة أخرى ولا تعارضها، بل تساعدها،
وتعاضدها (أشداء على الكفار رحماء بينهم )، وقال تعالى :( فبما رحمة من الله لنت
لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) وقال تعالى : ( يا أيها النبي جاهد
الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) ».
وفي قوله
تعالى : «ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة» يقول شيخ الإسلام
في «كتاب الإيمان»:« فقسوة القلب، ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه.
وقوة
القلب المحمودة غير قسوته المذمومة، فإنه ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف، وليناً
من غير ضعف».
ويقول
رحمه الله في «المجموع»(14/214):«وهذان الأصلان هما جماع الدين العام، كما يقال :
التعظيم لأمر الله، والرحمة لعباد الله . فالتعظيم لأمر اللّه يكون بالخشوع
والتواضع، وذلك أصل التقوى، والرحمة لعباد الله بالإحسان إليهم»؛ ومن الإحسان
رفع الجهل وهدايتهم.
ولا أظنك لا
توافقني بأنه متى عُدم التعظيم لأوامر الله عدمت الرحمة. و لكننى -ربما- أجدك تريد
أن تقولَ بأن الرّحمةَ مِنَ العبد لا تكونُ إلا على غيره؛ والذي سببه رقّة القلب
وتواضعه؛ فكيف أجعلُ البكاءَ الذي سببه الخشوع والخضوع -بسبب ما حصلَ مِنَ العلْم
النّافع- على أنه -هو كذلك- مِنَ الرّحمة؟
قلتُ: فإذا
كان العبدُ قد يَبْكي على غيره عندَ المصائب، وتجده يقومُ على إرشاده إلى العلم
النافع وكلُّ ذلك رحمةً به كما تقدّم تقرير ذلك؛ أفلا يمكنك أن تقولَ بأنّه إذَا
كان هذا الحال مع غيره فكيف مع نفسه؟
وهل تتصور
بأنك قد تجد عبدًا يكون رحيماً بغيره، ويكون على نفسِه قاسيًا غليظًا يرمي بها إلى
الهلكة؟
فإنّ العبد
حينما يغمره البكاء لما يسمع كلامَ اللهِ تعالى أو يكون في حال التعبّد؛ فإنَّ ذلك
لا يخرج عن كونه رحمةً وإشفاقًا على نفسه من الهلاك؛ وإلا متى قسا القلب فقد بينتُ
لك أثر ذلك سابقًا.
وأنتَ تجدُ
العبدَ في دعائه يقول: «اللهم اغفر لي وارحمني»؛ فإنه من رحمته على نفسه وخوفه من
هلاكها طلبَ المغفرة والرحمةَ مِنْ أرحم الراحمين وقد ورد هذا عن النبي صلى الله
عليه وسلم في دعائه.
يقول
شيخ الإسلام في «المجموع»(10/247) عند شرحه هذا النوعَ من الدعاء:«فهذَا فيهِ
وَصفُ العَبدِ لِحَالِ نَفْسهِ المقتَضِي حاجتَهُ إلَى المغفِرَةِ»؛ والحاجةُ إلى
المغفرة نَشأتْ بسبب الخوفِ مِنَ الوقوع في الهلاك؛ فمَنْ كان رحيما بغيره كان
بنفسه أرحم.
والمقصودُ
مِنْ إقامةِ هذا الموضوعِ ليس الإحاطةَ بجميعِ مسائلِه، ولستُ أدّعي ذلك؛ وإنّما
غرَضي الإشارةُ إلى أنّ العِلْمَ بالحقائق سببٌ من أسباب الرحمة، ويستوى فيه
الجاهل والصغير مِنْ حيث وقوعُ الرحمة عليهما. فالجاهل بالله -إذْ كان قدْ أدركَ
حقائقَ لم يدركْها الصّغارُ فرحمهم- هُو بدوْرِهِ غافلٌ عن حقائق أخرى قدْ أدركَها
العالم فرَحِمه؛ فكان أنْ أشْبهَ الصغير.
فالعالِمُ
-إذا- لا بدّ له مِنْ أن يستشعر الرحمة والشّفقة والعطف على نفسه وهو يتعلَّم، و
لا بدّ له -كذلك- أن يستشعرَ الرحمة والشفقة والعطف على العباد وهو يُعلّم؛ ليحصُل
المطلوب وهو الفوز بالجنان و إنقاذ النفوس من النيران؛ وهذا معنى قوله تعالى
-آمرًا عباده-(يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس
والحجارة)؛ وهذه الوقاية لا تحصل إلا بتحصيل العلم النافع وتبليغه على نهج أرحم
الخلق حبيبنا صلى الله عليه وسلم؛ وما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب.
فاللهم اغفر
لنا وارحمنا...
---
([1])
ولا أقصد هنا بأن الصحابي الجليل سعدًا رضي الله تعالى عنه ليس في قلبه رحمة؛
وإنّما أردت فقط الشاهد من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليقات
إرسال تعليق