صفات المنافقين كما يرويها الإمام ابن القيم
قال ابن القيم(1):
ما هو النفاق؟
هو الداء العضال الباطن الذي يكون الرجل ممتلئا منه، وهو لا يشعر، فإنه أمر
خفي على الناس، وكثيرا ما يخفى على من تلبس به فيزعم أنه مُصلح وهو مفسد.
ذِكْرُهم في القرآن
وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين، وكشف أسرارهم في القرآن، وجلى لعباده
أمورَهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر، وذكر طوائف العالم الثلاثة في أول سورة
البقرة: المؤمنين، والكفار، والمنافقين. فذكر في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار
آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشرة آية. لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم، وشدة فتنتهم على
الإسلام وأهله.
أثر فسادهم على الإسلام وأهله
فإن بلية الإسلام بهم شديدة جدًّا، لأنهم منسوبون إليه، وإلى نصرته وموالاته،
وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب، يظن الجاهلُ أنه عِلْم وإصلاح
وهو غاية الجهل والإفساد. فللّه كم من معقل للإسلام قد هدموه! وكَمْ من حِصْن له
قد قلعوا أساسه وخربوه! وكم من عَلمٍ له قد طمسوه! وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه!
وكم ضربوا بمعاول الشبَهِ في أصول غراسه ليقلعوها! وكم عمّوا عيون موارده بآرائهم
ليدفنوها ويقطعوها! فلا يزالُ الإسلام وأهلهُ منهم في محنةٍ وبليِة، ولا يزال
يطرقهُ من شبُهِهِمْ سرية بعد سرية. ويزعمون أنهم بذلك مُصلحون (أَلَا إِنَّهُمْ
هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 12] (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ
اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف: 8].
من ميزات المنافقين الباطنة...
دُرِستْ معالمُ الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها، ودَثرَتْ معاهدُه عندهم
فليسوا يعمرونها، وأفلَتْ كواكبُه النيرةُ من قلوبهم فليسوا يُحيُونهَا، وكسفَتْ
شمسُه عند اجتماع ظُلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها. لم يقبلوا هدى الله الذي
أرسَل به رسوله، ولم يرفعوا به رأسًا، ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم
بأسًا.
ومن ميزاتهم الظاهرة...
فالظواهر ظواهر الأنصار، والبواطن قد تحيزت إلى الكفار، فألسنتهُم ألسنة
المسالمين، وقلوبهُم قلوبُ المحاربين. رأس مالهم الخديعةُ والمكر، وبضاعتهُم
الكذبُ والخَتْر، المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحبُ ظواهر، مبخوس حظهُّ من
المعقول، والدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمل أسفارًا، فهْمهُ في حَملِ المنقول
وبضاعةُ تاجر الوحي لديهم كاسدة، وما هو
عندهم بمقبول. وأهل الاتباع عندهم سفهاء، فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يتطيرون.
المنافق له وجهان ولسانان!!
لكلّ مِنهم وجهان: وجه يَلقى به المؤمنين، ووجه يَنْقلب به إلى إخوانه من
الملحدين. وله لسانان: أحدهما يَقْبَلهُ بظاهره المسلمون، والآخر يترجم به عن سره
المكنون. قد أعرضوا عن الكتاب والسنة استهزاء بأهلهما واستحقارًا. وأبوا أن ينقادوا
لِحُكمِ الوحيين فرحا بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثارُ منه إلا أَشَرًا
واستكبارًا.
المنافق يسير مع الأقوى!
قام بهم- والله- الرياء، وهو أقبحُ مقام قامه الإنسان، وقعَدَ بهم الكَسَلُ
عما أمرُوا به من أوامر الرحمن، فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلاً، وإذا قاموا إلى
الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلًا. أحدهم كالشاة
العائرة بين الغنمين، تيعر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة، ولا تستقر مع إحدى الفئتين،
فهم واقفون بين الجمعين. ينظرون أيهم أقوى وأعز قبيلا مذبذبين بين ذلك لا إلى
هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا.
كيف يخادعون الناس؟
يعجب السامِعَ قول أحدهم لحلاوته ولينه، ويشهد الله على ما في قلبه من كذبه
ومينه؛ فتراه عند الحق نائمًا، وفي الباطل على الأقدام، فخذ وصفهم من قول القدوس
السلام: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [البقرة: 204]. أوامرهم التي يأمرون بها
أتباعهم متضمنة لفساد البلاد والعباد، ونواهيهم عمّا فيه صلاحهم في المعاش
والمعاد. وأحدهم تلقاهُ بين جماعة أهل الإيمان في الصلاة والذكر والزهد والاجتهاد،
(وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة: 205].
المنافقون جنس واحد وإن اختلفت
أبدانهم!
فهم جنس بعضه يشبه بعضًا، يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه. وينهون عن المعروف
بعد أن يتركوه، ويبخلون بالمال في سبيل الله ومرضاته أن ينفقوه، كمْ ذكرّهم الله
بنعمه فأعرضوا عن ذكره ونسوه! وكم كشف حالهم لعباده المؤمنين ليجتنبوه! إنْ
حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين، وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم رأيتهم عنه معرضين، فكيف لهم بالفلاح والهدى بعدمَا
أصيبوا في عقولهم وأديانهم؟ وأنَّى لهم التخلص من الضلال والردى وقد اشتروا الكفر
بإيمانهم؟ فما أخسر تجارتهم البائرة! وقد استبدلوا بالرحيق المختوم حريقا؛ فالقوم
في شأن وأتباع الرسول في شأن. إن أصاب أهل الكتاب والسنّة عافية ونصر وظهور ساءَهم
ذلك وغمهم، وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحّص به ذنوبهم ويكفر به عنهم
سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرّهم.
كيف بتعامل المنافق مع النصوص؟
ثَقُلَتْ عليهم النصوص فكرهوها، وأعياهم حملُها فألقوها عن أكتافهم ووضعوها،
وتفلتّت منهم السّننُ أن يحفظوها فأهملوها، وصالَتْ عليهم نصوص الكتاب والسنة
فوضعوا لها قوانين ردوها بها ودفعوها. ولقد هتك الله أستارهم، وكشف أسرارهم، وضرب
لعباده أمثالهم.
المنافقون يخلف بعضعم بعضا!
واعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم. أسروا سرائر النفاق؛ فأظهرها
الله على صفحات الوجوه منهم، وفلتات اللسان. ووسمهم لأجلها بسيماء لا يخفون بها
على أهل البصائر والإيمان. وظنوا أنهم إذ كتموا كفرهم وأظهروا إيمانهم راجوا على
الصيارف والنقاد. كيف؟ والناقد البصير قد كشفها لكم (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ - وَلَوْ نَشَاءُ
لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 29 - 30]
أركان النفاق!
زَرْعُ النفاق ينبت على ساقيتين: ساقية الكذب، وساقية الرياء. ومخرجهما من
عينين: عين ضعف البصيرة، وعين ضعف العزيمة؛ فإذا تمّت هذه الأركان الأربع استحكم
نبات النفاق وبنيانه. ولكنه بمدارج السيول على شفا جُرُف هار، فإذا شاهدوا سيل
الحقائق يوم تبُلى السرائر، وكشف المستور، وبعثر ما في القبور، وحُصّل ما في
الصدور تبيّن حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق، أن حواصله التي حصّلها كانت كالسراب (يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ
عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [النور: 39]
لذلك كانت...
قلوبهم عن الخيرات لاهية، وأجسادهم إليها ساعية، والفاحشة في فجاجهم فاشية،
وإذا سمعوا الحق كانت قلوبهم عن سماعه قاسية، وإذا حفروا الباطل وشهدوا الزور
انفتحت أبصار قلوبهم، وكانت آذانهم واعية.
خاتمة
فهذه- والله- أمارات النفاق، فاحذرها أيها الرجل قبل أن تنزل بك القاضية،
فذرهم وما اختاروا لأنفسهم من الهوان والخزي والخسران. فلا تثق بعهودهم، ولا تطمئن
إلى وعودهم؛ فإنهم فيها كاذبون، وهم لما سواها مخالفون (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ
اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ
الصَّالِحِينَ - فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا
وَهُمْ مُعْرِضُونَ - فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ
يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)
[التوبة: 75
- 77].
تعليقات
إرسال تعليق