من صور الإفساد في الأرض: الاعتداء على القوانين المنظمة لحياة الناس

 إنَّ الحديث عن الإفساد في الأرض ليسَ مِن بِدَعِ مقالاتِ هذا الزمن، فقد تكلم فيه خبراء المسلمين قديمًا وحديثًا شارحين نصوص الكتاب والسنة التي تتحدث عن أنواع الإفساد ومختلف صوره كالشرك والظلم ونشر المنكرات والعقوق وغير ذلك؛ فكلّ فعل يعارض مادة الصلاح والإصلاح فهو من الإفساد في الأرض. وقد ذم الله تعالى المفسدين الذي لا يصلحون في مواضع كثيرة من كتابه، من ذلك قوله تعالى: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)، (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)، (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِين) وغيرها كثير جدًّا.

وفي هذه المقالة سأتطرق إلى صورة من صور الفساد في الأرض المرتبطة بواقعنا المعاصر وهي التعدي على القوانين المصلحية التي يضعها خبراء النّاس من صُناع قرارٍ وغيرهم لضبط التصرفات الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية وغير ذلك، وهي قد تتغير بتغير الأزمنة والظروف وذلك لتطور حياة البشر وقصر نظرهم كما خلقهم الله تعالى. وهذا التغير في القوانين من البشر مما لا يعيبهم في شيء، فقوانين البشر لا يمكن أن ترتقي في متانتها وصلاحيتها الأبدية لنصوص القرآن والسنة، وكما أنّ وجود مثل هذه القوانين العملية المنظمة والملزمة ضرورة مصلحية، وأنّ تغيرها للأحسن والأليق حتمية مصيرية، وذلك للتغير القهري لظروف البشر وتغير تصوراتهم، كتغير قوانين المرور وقواعد البناء والتصنيع والتعليم والأحوال المدنية والعقود، وطرق تقديم الخدمات ومحاربة الجرائم وتقييد التسلح الجائر وغير ذلك مع التطور التكنولوجي.

من يضع القوانين؟

الأصل أن الذي يضع القوانين في مجتمعٍ مَا هُمْ عدوله وعقلاؤه وخبراؤه كلٌّ بحسب مجاله. وتوفر العدالة هنا في واضع القانون مهم جدًّا حتى يجمع بين العلم والرحمة، فلا يؤدي قراراه أو قانونه إلى ظلم ضعفاء الناس وأبريائهم، أو التعدي على الطبيعة البشرية، أو البيئة التي توافق طبيعة البشر كما خلقها الله تعالى وأرادها أن تكون كي تخدم الطبيعة البشرية. فالله تعالى هو خالق البشر وخالق بيئتهم، وهو العالم بما يخدم هذا وذاك، فعلى صانع القانون وواضع القرار أن يراعي هذه الأمور فلا ينبغي أن يخرج نصه عن نصوص القرآن والسّنة، وبذلك ينأى بنفسه عن الأنانية أو التعصب للأشخاص أو الهيئات، ويضمن بذلك التوزان. فَسِرُّ توازنِ أقوال الناس وأفعالهم هو الابتعاد عن الأنانية والتعصب المقيت مع لزوم ضبط الأمور بنصوص الوحيين الصادرة عن الله تعالى خالق البشر ومدبر شؤونهم؛ وليس هذا موضوع بحثنا ولكن وجب التنبيه لاقتضاء المقام.

 

فهل من يضع القوانين يدخلون في عمومها؟

والواضعون للقوانين ليسوا معفيين من الخضوع لها إذ هم بشر يعتريهم ما يعتري غيرهم من النقص ، وكما أنّهم يعدون أفرادًا من مجتماعتهم، بل هم الملزمون من باب الأوّلية والأولوية لأنهم بمثابة المثل الأعلى لمن دونهم، لذلك كثيرا ما نسمع مثل هذه المقولات تردد من الجميع: "القانون فوق الجميع" و "القيادة بالـمَثَل"!

ومن هذا المنطلق ومن علمنا أن الجميع داخل في التطبيق العملي للقوانين بما فيهم واضعوها فإن أي اختراق عمدي غير مفسَّر للقوانين من أي فرد من أفراد المجتمع يعد من الإفساد في الأرض وذلك للأسباب التالية:

أولا: إنَّ القوانين هي وسيلة لنشر الأمن والأمان في المجتمع فأي خرق لها هو خرق لأمنه، ونشرٌ للشعور بالخوف والفزع من انتهاك الحقوق المكفولة لأفراد المجتمع الذي ممن المفترض أن يكون آمنا، وهذا مما لا شك فيه من الإفساد في الأرض.

ثانيا: يعد خرق القوانين نقضٌ للعهود والعقود الملزمة من الجميع وللجميع. وإذا مرّتْ مثل هذه الخروق دونَ عقوبة واضحة ورادعة فستنتشر -لا محالة- الفوضى، وهو أيضًا من الإفساد في الأرض.

ثالثا: واضعوا القوانين إذا جنّبوا أنفسهم عقوبة الاختراق فقد وضعوا أنفسهم في مكانة أعلى من المكانة البشرية التي أرادها الله تعالى للبشر، وهذا من أبشع صور الإفساد في الأرض.

وخلاصة الكلام أنّ الاعتداء على القوانين بخرقها والتلاعب فيها مِن كائن مَن كَان ليس من شيم الصالحين و لا المصلحين، بل هو من شيم الفجار وأصحاب الأهواء والمصالح الشخصية الذين وضعوا أنفسهم في خانة المفسدين في الأرض مضيعين على أنفسهم فرص الفوز بنعيم الآخرة الأبدي...

قال تعالى: (تلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

تعليقات

الأكثر قراءة

touch wood , cross finger, Jesus (Christ!)...

مناقشة هادئة: السّبتُ بين صيامه قصدًا وصيامِه تبعًا

البرّ لا يبلى.. والإثم لا يُنسى والديان لا يموت.. فكن كما شئت (كما تَدين تُدان)