معاملة الفقراء في زمن الثراء
إنَّ
مِنْ حِكَمِ اللهِ تعالى أنْ جعلَ مِن عبادِه فقراءَ وأغنياءَ، فهو القائل: (هو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم
فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ۗ إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم)، والقائل: (أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ
قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا
بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ
وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)، والقائل: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم).
فهذه
الآيات مِنَ النُّصوص الدَّالة على أنّ الله تعالى هو الذي قَسَمَ الأرزاق بين
عباده ليختبرَهم في هذه الدنيا، ثم إلى دار الجزاء حيث يحاسَبُ العبدُ على ما قَدّمَ
من أعمالٍ. لذا فإنّ الله تعالى يحبُّ أن يرى عباده الأغنياء والمقتدرين يهتمون
بشؤون إخوانهم الفقراء والمحتاجين، ليحققوا العدل والتوازن ويسيروا يدًا بيدٍ في
تحقيق العبودية المطلقة له سبحانه وتعالى.
فكونُنا
نرى في مجتمعاتنا فقراءَ ومُعوَزّين فإن ذلك لا يَعِيبهم شيْء، ولا يقلّل مِنْ
شأنهم كما يعتقد البعض أو يفعلونه، حيثُ نراهم يشنّون حربًا على الفقراء والعجزة بإذلالهم
والتقزز منهم والترفع عليهم، كأنهم ينتقمون مِنْ شيءٍ مَا، بَدَلًا من أن يشنّوا حروبَهم
على الفقر الذي قدَّره الله تعالى عليهم، وذلك بالإسراع إلى سدِّ حاجياتهم وَفق
متطلبات عَصْرِهم. فاللهُ تعالى هو الذي أراد أن يخلق البشرية بالصّورة التي
جاءَت في كتابه والتي نراها مطابقة للواقع؛ فنحن نرى مِنَ الناس مَن هو عاجز عن
الحركة، ومنهم ضعيف بالنظر إلى بُنيتِه وسِنّه وظروفه، ومنهم مَنْ لا يكفيه دخله
لسد الحاجيات، ومنهم مَن أُوتي أشياء كثيرة والصور كثيرة وكبيرة جدًّا.
ولكنّ
السؤال اللائق بهذا المقام -وهو مقصود هذه المداخلة-: ما
هو احتياج الفقير في زمن الثراء؟
وقلتُ
هنا "زمن الثراء" لأنّنا في زمنٍ طغتْ فيه السباقات السريعة نحو الـمادة،
حيث كَثُرَ عدد الأغنياء والمشاهير والأثرياء في مجتمعاتنا بأعداد مهولة وأرقام
خيالية واستثمارات لا متناهية مع ملاحظة أن الفقر لا يزال في تزايد مطّرد مستمر
استمرار تلكم السباقات العنيفة. فلماذا كلّ هذا التّباين الشّديد، وهذا الاطراد قُوّة
وضعفًا؟ وهو مؤشر على وجود تقصير كبير لتحقيق العدل المطلوب والتوزان المنشود.
فلذلك
سألتُ ذاك السؤال: ما هو احتياج الفقير؟
فبإعمال
عقولِنا فإنَّ لنا أن نقول –بكل يُسرٍ- أنَّ احتياجات الفقير تتغيّرُ بتغيّر الظُروف.
ففي أزمنةٍ ماضية قريبة كان الفقير يكفيه ربـّما بعضُ الأكل واللباس ليستمرَّ في
نشاطاته الحيوية بشكل فعّال، بينما في هذا الزمن زمن التكنولوجيا والرقمية والإعمار
والتطور المعقد فإنَّ بني البشر لا يستطيعون الاستغناء عن مثل هذه الأساسيات -على
سبيل المثال لا الحصر-:
1. الأكل والشرب واللباس والتدفئة والمسكن
بالأثاث الضرورية: فهذه من الأمور المتعارف عليها دون منازعة. فلا يجمُل بنا –في مثل
هذا الزمن- أن نغضَّ الطرف، ونضع رؤوسنا على الوسائد منتظرين أحلاما سعيدة، بينما غيرنا
ممن هم في حاجة إلينا لا يزالون يفترشون الحجر ويلتحفون الأسقف أكثرها في طريق
الانهيار ونحن في زمن التطور والتكنولوجيا والإعمار.
2. وأمّا المواصلات: فمَن مِنّا يستطيع أن
يسير خطوة خارج منزله لقضاء حاجة دون وسيلة نقل؟ أوليس الفقير من جملة هؤلاء البشر
الذين يتنقلون بذات الوسائل ويذهبون لذات الأماكن لطلب ذات الخدمات والحاجيات؟
3. الاتصالات والانترنت: إنَّ الفقراء لا يعِيشون
في عالم افتراضيٍّ كما يتوهمّه البعض أو يريد أن يقنع نفسه بذلك ليغض بصره عنهم
ويرفع اللّوم عن نفسه. ولْنَنظُر على سبيل
المثال إلى معظم الخدمات في أيامنا كيف باتت رَقَمية بما في ذلك الصحة والتعليم؛
فكيف يستطيع الفقير تقريب هذا النوع من المتطلبات إليه وهي صارت بعيدة عنه؟ ألا
ترى كيف أنّ التّطوّر يتسارع والمتطلبات تتكاثر بينما دَخْلُه -هذا إنْ عَثر على عمل
لائق- يتحرّك بسرعة السلحفاة...
4. وأمّا التعليم: فلستُ أجد شيئا أنجع لمحاربة
الفقر من التعليم. فَبِهِ سيُمَكّنُ العبدُ من كفاية حاجته وحاجة مَن يعول، بل
ربما سينتقل الخيرُ نتيجة ذلك إلى غيره. أَفَلا يجدر بنا أن نضع مثل هذه الأمور ضمن
المخططات الريادية؟
5. تنمية مهارات الأطفال: إذا كنا نؤمن بأن
الأطفال هم قادة المستقبل وَشُعلته بما فيهم أطفال الفقراء، فينبغي النظر إليهم من
مسافة مُوَحّدة على أنهم أطفال، فيُعامَلون وفق ذلك ويعطون فُرَصَهم المتوافقة مغ
أعمارهم لتنمية مهاراتهم وإدخال السرور إليهم. أَوَلَا تستحق براءة الأطفال أن توضع
فوق كل اعتبار شخصي؟! أم أن أطفال الفقراء يريد البعض مِنّا أن يجعلهم في تقدير خبر
كان المحذوف، لسان حالهم: "لا أهمية لهم"!
6.
وأمّا
العلاج: فلا أظن أحدا سينازع في هذا الأمر، فهو في غاية الأهمية والوضوح في زمنٍ
صارت فيه الخدمات الصحية أشباه أسواق.
فهذه
بعض المتطلبات التي لا يمكن أن يستغني عنها بَشَرِيٌّ لإقامة حياته في هذا
الزمان، فلا أظن أحدًا على وجه
الأرض خافٍ عليه هذا الواقع، ولا خافٍ عليه غلاء مثل هذه المتطلبات وارتفاع مستويات
الفقر، فكيف -إذًا – والحال كما نراها- يمكن لفقيرٍ أن يُوازِن حياته بتوفير تلكم
المتطلبات أو بعضها على الأقل وهو في صراعٍ دائمٍ بين تغطية نفقات أجرة مسكنٍ وتوفير
لقمة غَداء أو عشاء؟!
أليس
هذا هو الواقع الذي نعيشه؟ فهل لا زلنا نعتقد أنّ الفقير ليس يحتاج سوى بعضِ الأكل
بالنظر إلى متطلبات عصره الكثيرة والمفروضة على الجميع بالأمر الواقع؟
فإذا
علمنا –يا عبد الله- أننا في زمنٍ متطورٍ جدّا، وأن متطلبات الزمن وأعباءه كثيرة
ومعقدة جدًّا، فما بال -إذًا- الكثير في مجتمعاتنا لا يزالون يركزون –مِرارًا
وتَكرارًا- على "الخيار والبندورة والزيت والسكر والبطاطا"؟ مع أنّهم
يملكون الإمكانات لفعل أكثر من ذلك وبطرق متنوّعة وبتكاليف قليلة ليُمَكّنوا هذا
الفقير من الانخراط في المجتمع بشكل أكثر فاعلية.
أَوَلَا
يستطيعون مثلا أن يضيفوا أنواعًا أخرى من طيب الطعام والشراب؟
أولا
يستطيعون أن يضيفوا شيئا للسِّتر مِنْ حُسن اللباس المنزلي والخارجي؟
أولا
يستطيعون أن يضيفوا شيئًا من الحلويات والألعاب والترفيه؟
أَوَلا
يستطيعون أن يضيفوا شيئا للتعليم والعلاج؟
أَوَلا
يستطيعون أن يضيفوا شيئا للمواصلات؟
أَوَلَا
...أَوَلَا..إلى غير ذلك؛ فقائمة الفرص المتاحة للعمل لأجل الآخرة وإرضاء ربِّ
العزة طويلة ومتنوعة...
فلماذا
لا نرتقي بتفكيرنا –بهذا الشكل- في التعامل مع الفقراء والمحتاجين مثلَما ارتقى وبسرعة
البرق في الاستثمارات والعقارات والتكنولوجيا وريادة الأعمال وصناعة الاستهلاك؟! أفلا
يحق لفقراء مجتمعاتنا أن يكون لهم نصيب من هذه الريادة والقيادة والصناعة؟ ولو من باب رد الجميل!
...
والمقصود
من هذه المداخلة أنَّ الله تعالى –بحكمته- هو الذي وزَّع المال وقَسَمَ الأرزاق
بين عباده، وهَيّأَ الأسباب للغني ليكون غنيا وذا مكانة، ومَنَعها مِنَ الفقير
والعاجز والمحتاج لابتلاء الطرفين. ممّا يجعلنا نقول بأنّ ما ينعم به الأغنياء مِنْ
مال وقوة ومكانة اجتماعية محلية ودولية وغير ذلك مِنَ النّعم فإنَّ للفقراء
والمحتاجين حقًّا من كلّ ذلك كما أمر سبحانه تعالى من خلال الإنفاق لإقامةِ
حياتهم بحسب احتياجات الواقع الذي يعيشون فيه، ليس بمقاييس العصور القديمة
والأزمنة الماضية.
ثمّ
لنسْأل أنفسُنا:
فَلَوْ كَانَتْ تلك النِّعم من مالٍ وقوةٍ
ومكانةٍ ووقتٍ وعِلْمٍ مِن صُنعِ البشر الخالص أو من صناعة ذكائهم المحض أو أنهم
يستحقون كل ذاك العطاء كما يزعم البعض على قاعدة قارون لـمَّا قال (إنما أوتيته
على علم عندي)؛ فلماذا يموت العبد وليس يأخذ من ذلك شيئًا؟ ولماذا سيُسأل عن
كل ذلك يوم القيامة؟ يقول النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ،
وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ ، وعن جسمِهِ
فيمَ أبلاهُ).
...فتأمّل
معي ذلك جيدًا،
ولنراجع
ولنتراجع كلٌّ بحسب قدرته فـــ(إنَّ
اللهَ لا يُضيع أجرَ المحسنين)، وهو (مَعَ الذِينَ اتَّقَوْا
والذينَ هُم محسِنُون)،
واحذَر
مِنْ تخويف الشيطان لك بالفقر كما قال تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم
بالفحشاء ۖ والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ۗ والله واسع عليم)، فلا تلتفت إلى وساوس
الشياطين والمثبطين من الناس، وابذل ما بوسعك ولا تبخل،
فإنّ
الرزق يبارَك فيه مع كلّ إنفاق، قال تعالى: (قل إنَّ ربي يبسط الرزق لمن يشاء
من عباده ويقدر له ۚ وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ۖ وهو خير الرازقين)؛
فـيا
أيها الناس!
(من
ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة)،
فهذا
قول ربنا تعالى حاثًّا على البذل والعطاء.
فهل
من مجيب.. أيها العقلاء؟
تعليقات
إرسال تعليق