من واقعنا: خطورة تحول الوسائل إلى أهداف مطلقة


الحمدُ لله وكفى والصلاة والسلام على نبيِّنا المصطفى محمد وعلى آله وصحبه وبعد؛ ليس يوجد أحد مِنّا يخفى عليه معنى الوسائل والأهداف، وأنّ هذه الأهداف لا تتحقق إلا بتوَفّر الوسائل المناسبة لها، والموصلة إليها. ومتى عَرف العبدُ أهَدافه وحدّدَ وسائلها فإنّه سيجتهد ويسدّد ويقارب ليصل إلى تلك الأهداف المسطرة الهدف تلو الآخر.

وَلِكَوننا مُسلمين فإنّنا ننطلق دَوما في مسألة الحكم على صِحّة الأهداف والوسائل مِنْ مُسَلّمة ثابتةٍ وهي أنّ جميع تصرفاتنا قد ضبطتها نصوص الكتاب والسّنة؛  وهو أمر لا خلاف فيها، فَلَم يتبقَّ سوى التسليم والتطبيق.

ولكنّ السّؤال المقصود هنا: ماذا لو تحوّلتْ وسائلُنا إلى أهداف مطلقة؟

ففي هذه الحال فإنّ العبد سيكون قد حادَ بلا شكّ عن أهدَافه بسبب دورانه المستمر في دوّامة الوسائل. وهذا الدّوران بدوره مع مرور الزمن والغَفلةِ عن رؤية الهدف الحقيقي قد يتحوّل إلى اغترارٍ نهايته ضيق بل ربما هلاك.

ولنضرب بعض الأمثلة الواقعية والمترابطة ليتضح المقصود:

1.   المثال الأول: عبادة الله: جميعُ المسلمين -ولله الحمد- على عِلمٍ أنَّ الله تعالى لم يخلق الخلق إلا لعبادته، وأنّ الشرع اعتنى بالوسائل الموصلة إلى الله والمقرّبة منه سبحانه وتعالى. فلذلك وجب على كل مخلوق أن يجعلَ هذا الأمرُ هدَفه الأسمى.

ولكن ما نلاحظه أنّ الكثير من المسلمين في زمن الانبهار بالتطور والاغترار بالتكنولوجيا ربطوا -وللأسف- تخلّفهم بِالدّين؛ فأُضْعِفَ اللّسان العربي، وضَعف التّوحيد، وتفكّكتْ الارتباطات بكثير مِنْ أحكام الحلال والحرام، مع أنهم لا يزالون يزعمون أو على الأقل لا يزالون على عِلمٍ أنّ هدفهم مِن وجودهم في هذه الدنيا هو تحقيق العبودية المطلقة لله تعالى.

فَبِما أنّنَا على علم بهذا الأمر فإنّه يسهل علينا ردّ مزاعم التّخّلف بـما يلي:

·       فكما هو معلوم؛ إنّ الدين عند الله تعالى هو "دين الإسلام" بجميع عقائده وأحكامه وقيمه وثوابته. فهو المنهج الكلي للحياة غير القابل للتجزّؤ ولا للاختيار بحسب الهوى والرغبة. وهو كذلك الوسيلة الوحيدة التي تجعلنا نعبد ربنا تعالى على مراده وعلى مراد نبيه صلى الله عليه وسلم. فكلّ مَن يدّعي أنّ هدفه هو عبادة الله تعالى وإرضائه سبحانه فلَيس له سبيل سوى هذا السبيل.

·       وعلى ذلك فإنَّ ادعاءَ أنّ الدِّينَ الإسلامي ضدّ التّطور أو يمنع التطور، أو الادّعاء بوجود (إسلامٍ صحيحٍ) و(إسلامٍ غير صحيح) ذريعةٌ للتغيير السّلبي،  ووسيلة للتملص من المسؤولية، بل كذبةٌ عريضةٌ، يكَذّبها الشرع والعقل وتاريخنا القديم المشرق. بل يوجد في العصور الحديثة الكثير من المسلمين لم يمنعهم التّمسك بالدين وإرضاءِ الله تعالى مِنْ أن يكونوا علماء وخبراء طب وفيزياء ورياضيات وطبيعة وتجارة وصناعة وغير ذلك.

·       فلا توجد البتة استحالةٌ في الجمع بين الاهتمام بأحكام الحلال والحرام وتحقيق متقتضيات التوحيد وتطبيق الشّرع على أنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا المحلية والخارجية، والاهتمامِ بأمور الدّنيا والالتحاق بركب التّطوّر. فالله تعالى هو الخالق، وهو الآمر والناهي، وهو العالم بما تحتاجه البشرية على مرور الأزمان. فلن يكون البشرُ أعلمَ مِن ربهم ليكتشفوا(!) بعدَ ذلك أن التّمسك بجميع الدّين مؤدّاه التخلف والانحطاط، فَيخترعوا مصطلحات زائفة كمصطلح (إسلام صحيح) و(إسلام غير صحيح) و(إسلام سياسي) و(إسلام غير سياسي) و(إسلام قديم) و(إسلام جديد) وغيرها من التقاسيم لتمرير الفساد وإنجاح المخططات المعادية للدين الإسلامي وأهله الصادقين.

2.   المثال الثاني: العِلْمُ: الكلّ على عِلمٍ بأنّ فقهَ نصوص الكتاب والسّنة مِنْ وسائل تحقيق العبودية المطلقة لله تعالى على مراده، وأنّ هذا الفهم لا يتأتى إلا بتعلم الوسائل الموصلة إليه: كاللغة والأدب والتفسير والحديث والأصول والفقه والعقيدة وغير ذلك، فهذه الأبواب ليست سوى وسائل توصلنا إلى الغاية مِن التّعلّم وهو العَمَلَ بهذا العِلم بكل صدق ونزاهة وعدالة.

ولكنّ الملاحظ في زماننا أن الغالب من يسلك هذا الطريق لا يزال يدور في دوامة العِلمِ متجاهلًا الكثيرَ مِن الأعَمال الهامة بعضها مؤثر على التوحيد والإيمان. وبمعنى أوضح؛ لا يزال يدور في تحقيق الأسباب متجاهلًا الكثير من متطلبات الهدف الأسمى المقصود من الخلق. وبعبارة أكثر وضوح أنّ الكثير منهم أوقفوا عجلة الزّمن، وفصلوا أنفسهم عن واقعهم، وراحوا يخوضون في دوامة "تحقيق" الوسائل لأنفسهم ولغيرهم بَدلًا من مواصلة السّير على طريق مستقيمة واضحة حتى يسير النّاس خلفهم بما تعلموه مِنَ العلم ليجعلوا أنفسَهم علماء أُمّة.

فبوجود مثل هذا الفَصل وهذا الدوران في الوسائل -من الحُفّاظ والمتعلِّمين الذين امتلكوا العلم للقيام بأدوارهم التربوية وتوسيع دائرة التطبيق على أرض الواقع لتشمل المجتمع والأمة وجميع مجالات الحياة دون استثناء-؛ فكيفَ السّبيل إلى تحقيق مسائل في التوحيد من ولاء وبراء وحب وبغض ونصرة وصفاء العقائد على أرض الواقع؟ وكيف السّبيل أيضًا إلى تحقيق العديد من مسائل الحلال والحرام على أرض الواقع؟ وكيف السبيل إلى تحقيق مسائل في الأمر بالعروف والنهي عن المنكر على أرض الواقع؟ فتجد أمثال هؤلاء غارقين سنوات عديدة في الشروحات المشروحة، والمختصرات المختصرة والحفظ المحفوظ؛ بدَلًا من الجمع بين توفير تلك الوسائل للغير والانتقال إلى توسيع دائرة التّطبيق العملي كلما توسعت لديهم دائرة العلم والفَهم؛ ليكونوا عُلماءَ أُمّة ربانيين، ويُوَرّثوا هذا الأسلوب في التفكير للطلبة خاصة والنّاس عامّة. فليس المطلوب منك أن تكون عالِـمًا يشار إليه بالبنان بل يكفي أن تكون عامِلًا؛ فكَم مِن عامل سَبق -بصِدْقِه وعَمَله- العديد من العلماء مجتمعين فضلا عن غيرهم. والمقصود الانطلاق من الواقع الحقيقي في التغيير الإيجابي لا من واقع الافتراضات الموجودة في الدِّهن والكتب، ولا من التنظير المجّرد عن الواقعية، ولا مِن طَلب المثالية الخيالية، ولا مِن البحث عن المسوّغات.

فما نشاهده –مَثلًا- من انتشار متسارع للفساد والإفساد في الأرض في العديد من مجالات الحياة وأحيانًا بالقانون-، حتى وصل الحد إلى محاولاتِ تقبّلِ الشّذوذ الجنسي (المثلية) –في مجتمعاتنا- كحرية شخصية مطلقة، وتقبّل الثقافات الغربية الشاذة بحجة (التّنوع والشمولية)، وانقلاب موازين الصلاح، وقلب الثوابت والمفاهيم وغير ذلك- لخير دليل على وجود هذا التقصير. فالفساد بجميع أشكاله لـم يظهر بهذا الفُحش إلا بسببِ تقصير أهل العلم -مَنِ امتلك منهم وسائل التغيير الإيجابي- في القيام بأدوارهم الحقيقية التي تساعد النّاس –بجميع أصنافهم- على العودة إلى دينهم وفطرهم السليمة، وتساهم في ردّ الظالم عن ظلمه والفاسد عن فساده بالتي هي أحسن.

والمقصود أنّ الواقع المرّ الذي نعيشه ما هو إلا نتاج تحوّل الوسائل إلى أهداف.حيث غابَ دورُ حملةِ العلم النبوّي في الإصلاح الشّامل على جميع الأصعدة، ليستغلَّ هذا الفراغ المتصيدون وضعاف النفوس وأعداء الدين لإفسادِ المجتمعات وإبعاد الناس عن دينهم، لتتحوّلَ بعد ذلك الكثيرُ من المخالفات الشرعية –والتي بعضها من كبائر الذنوب بل بعضها في صلب التوحيد- إلى ظواهر وجوائح مِن قوة انتشارها لأنها باتت في نظر الناس من الأمور العادية،  بل من متطلبات الحياة المادية للّحوق بركب الصناعة والريادة والتّطور! وهذا الأمر يجرنا إلى الكلام عن وسيلة "امتلاك القوة".

3.   المثال الثالث: امتلاك القوة:  فبعلمنا أن الله تعالى لم يخلق العباد إلا للعبادة، وأنه تعالى قد أرشدهم إلى السبيل إلى تحقيق ذلك، وذلك بتعلّم دينه والعمَل بِه فليس مِنْ شكّ أنّ امتلاك أيّ قوة مساعدة لن يكون محلّها سِوى خانةِ الوسائل، أو ربما قد توضع ضمن أهداف مصغرة ومساعدة لتحقيق متطلبات الهدف الأسمى (=تحقيق العبودية المطلقة لله تعالى). ولكننا –ولكوننا مسلمين- وبالنظر إلى ذاك الهدف الأسمى- نرى مِنَ الحكمة وضع امتلاك أي قوة -مِنْ أرض أو مَال أو عِلْم أو إعلام أو سُلطة أو منصبٍ أو جنسية أو لغة أو صناعة أو ما شابه ذلك- في خانة الوسائل لا الأهدف حتى تبقى أنفسنا متعلقة بما عند الله، وتبقى تصرفاتنا منضبطة بالشرّع، فنسارع في تحقيق المطلوب محليًّا وخارجيًّا مِن غيرِ تمييز كما أراد مِنَّا ربُّنا تعالى في كتابه وسُنّة نبيه صلى الله عليه وسلم بحسب الاستطاعة لا بحسب المصالح الشّخصية.

ثمّ لك الآن –بعد هذه الجولة القصيرة- أن تتخيل معي حينما يحوّلُ النّاس امتلاك القُوة مِن وسيلةٍ مساعدة لتحقيق العبودية لله تعالى إلى هدفٍ شخصيّ؟! ثمّ لك كذلك أن تتخيل حجم الكارثة حينما تُفصل هذه القوى عن الهدف الأساس والمقصود من الخَلق؟! والإجابة على هذا التساؤل لا يحتاج مِنّا سِوى النّظر إلى الواقع الذي من حولنا أسرة ومجتمعًا ودُولًا؛ فماذا نشاهد؟! نشاهد صراعات مِن أجل الشّهرة والزعامة والمال والمناصب وتحقيق الجوائز، والتحكم بمصائر الناس بطرق ماكرة فاسدة وغير ذلك من الأمثلة.

والمقصود أنّ فَصْلَ (امتلاك القوة) عن هدفِ تحقيقِ العبودية المطلقة لله تعالى على مراده تعالى هو الذي أدخلَ الغُرور إلى النّفس مَا أدّى إلى ظهور مثل هذه الأمراض والصّراعات.

4.   المثال الرابع: امتلاك المعارف والإدارة: مع أنّ هذا المثال يندرج تحت النقطة السابقة إلّا أنّني ذكرته هنا لأهميته. فنحن نسمع الكثير مِن أصحاب الأعمال والإداريين ومَنْ يسمّون أنفسهم بالرِّياديين حينما يتعاملون مع بعض الحالات التي ينبغي فيها استعمال النزاهة والصدق والتعاون على البر والتقوى يردّدون عبارة ( business is business) بمعنى (العمل هو العمل) على طريقة الغرب وَإنْ أدّى بهم الأمرُ إلى الظّلم والاحتكار والرشاوى وأكل أموال الناس ومجهوداتهم بالباطل.

فانظر –رحمك الله- معي إلى نتيجة أخرى سلبية من نتائج تحوّل الوسيلة إلى هدفٍ؟ وهو راجع كما قلنا سابقًا إلى فَصلِ الوسائل عن الهدف الأسمى والمقصود من الخَلق وهو تحقيق العبودية المطلقة لله تعالى على مراده سبحانه وتعالى.

5.   المثال الخامس: تأليف القلوب: جَعل شَرعُنا تأليفَ القلوبِ وسيلةَ لدفعٍ شرّ أو رجاء إسلام، ولكنْ حينما تتحول هذه الوسيلة إلى هدفٍ مفصولٍ عن الهدف الأسمى بالقصد الأول وهو تحقيق العبودية لله تعالى، فإن العواقب ستكون وخيمة. وللتوضيح سأذكر من الواقع مثالين هامّين يفيدانِنَا في تقريب الفهم:

·       انظر حينما يتحوّل تأليفِ قلبِ الكافر إلى ولاء ومحبة ونصرة وتعاون على الباطل والإثم والعدوان.

·       وانظر حينما تؤَلّفُ قلوبُ الكفار بكَسرِ قلوبِ المسلمين المؤمنين بالله تعالى وقهرهم وإذلالهم واستضعافهم.

فهذه من غرائب هذا العصر حيثُ صارت مصلحة المسلم عند الكَثيرين في أدنى دركات سُلّم الأولويات بعدما كانت في أعلى القائمة مهما كان جنسه ولونه وجنسيته ولغته ونسبه والخلاف والاختلاف وغير ذلك.

...

والصّورُ في واقعنا عن تحول الوسائل إلى أهدافٍ مطلقة ومفصولةٍ عن الهدف الأسمى كثيرةٌ جِدّا وفي مجالات عديدة كالغداء والعلاج والتعليم والسكن والتصنيع وغير ذلك، ولكنّ المقصود من إظهار هذه الأمثلة لنكون على حذر من ثلاثة أمور:

الأمر الأول: الحذر مِنْ فَصلِ أهدافنا الجزئية عن الهدف الأسمى والمقصود من الخَلق؛ وهو تحقيق العبودية المطلقة لله تعالى على مراده سبحانه وتعالى ومراد نبيه صلى الله عليه وسلم. وهذا الأمر لا يتأتي إلا بتطبيق الكتاب والسّنّة وفق فهم خير القرون.

والأمر الثاني: الحذر من تنحية الدّين والوسائل الشرعية الموصلة إلى تحقيق هدف العبودية المطلقة لله تعالى وحده.

والأمر الثالث: الحذر من استعمال وسائل غير شرعية أو غير منضبطة بالشّرع لتحقيق أهدافنا الجزئية.

 

والله تعالى أعلم.


تعليقات

الأكثر قراءة

touch wood , cross finger, Jesus (Christ!)...

مناقشة هادئة: السّبتُ بين صيامه قصدًا وصيامِه تبعًا

البرّ لا يبلى.. والإثم لا يُنسى والديان لا يموت.. فكن كما شئت (كما تَدين تُدان)