وجهة نظر: الأعمال بين حقيقة التوفيق والخذلان

 نسمعُ مَنْ يقول: "الحمد لله...ربّي وفقني: الجمهور تفاعل مع الأغنية" وآخر: "...مع الرّقص والأسلوب.."، "ربنا وفقنا وفزنا بنتيجة عريضة..."، "بتوفيق من الله بنينا ملاعب كرة قدم عالمية..."، "ربي وفقني واشتريت عقارات..."، "ربي وفقني بشقة عن طريق البنك.."، "ربي وفقني بقرض استثماري من البنك..."،"..ربي أكرمني وربحت اليانصيب.."...

وبالمقابل نسمع أيضًا مَنْ يقول: "الحمد لله ربي وفقني للصلاة في وقتها.."، "ربي وفقني ببيت أستر فيه أهلي.."، "ربي وفقني بِعَمل أكفي به حاجتي وحاجة أهلي"، "الحمد لله ربي وفقني بزوجة صالحة"، "الحمد لله ربي وفقني وتخرجت من الجامعة لأكفي نفسي وعائلتي"، "رب وفقني وتمكنت من إعانة عائلات فقيرة"، "رب وفقني وأخرجت الزكاة في وقتها"...

فهذه الأقوال من باب التمثيل لا التعيين، هو مما نسمعه كلّ يوم من الكثيرين مِنَّا مِنْ غَيرِ تمييز بَيْنَ التوفيق الإلهي الصحيح والتوفيق الآخر الذي يسمّيه البعض "توفيقا" وهو الأقرب لأن يكون خذلانا وإن كان ظاهرهُ نجاحًا في زمنِ قَلْبِ الموازين وتحريف المفاهيم. فَإلَى توضيح المقصود:

معنى التوفيق الإلهي

إنّ التوفيق الإلهي هو إصابة الصواب فيما يُعينُ على طاعة الله، والقيام بحقوق الله وحقوق العباد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سواء أكان العبد فقيرا أم غنيًّا، أو كان صاحب سلطان (أيا كانت المسؤولية) أم سوى ذاك، ففي هذه الحالة يُربط مثل هذه التوفيق بالله سبحانه وتعالى. فليس مجرد كون العبد غنيّا أو ذا مكانة أنَّ الله تعالى يحبّه وأنّه وفقه إلى ذلك، وليس كذلك كون العبد فقيرا ليس له تلك المكانة في المجتمع أنّ الله تعالى أهانه وخذله. فكم من فقير تجده صالحا قائما بحدود الله، وكم من غني تجده فاسدا متعديًا على حدود الله، وقد تجد العكس كذلك. فالفوارقُ في الأرزاق بين العباد متعلقٌ بحِكَمِ الله تعالى في تقْسيم الأرزاق بين عباده ليبْتَلِيَهم، بينما مسألتنا "مسألة التوفيق الإلهي" فهي مرتبطة ارتباطًا وثيقا بما يحبه الله تعالى، وبالقيام بحقوقه وحقوق العباد.

 

فالوقوع في المعصية ليس توفيقا

فمِمَّا ينبغي عِلمُه في هذا المقام أنّ الله تعالى لا يُعِينُ العبدَ على معصية أو ما يؤدي إلى معصية وإن وقعت بإرادته تعالى، لأن الإعانة الخاصة والتي هي التوفيق هي للمؤمنين الصالحين المتقين قال تعالى: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون".

أمّا أن يُوقع الإنسانُ نفسَه في معصية أو ما يؤدي إلى معصية -وإن كان في عُرف الناس قد تُوضع في خانة النجاح وريادة أعمال- فهذا لا يمكن أن يوضع إلا في خانة الخذلان لا التوفيق، لأن مثل هذا العبد يسير في حَالة سُبات في طريق تضييعِ آخرته بدنياه، قال تعالى (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ).

 

واللهو المفضي إلى تضييع الأموال والأوقات والأولويات والأخلاق ليس توفيقا

فحينما يقول العبد لصاحبه -معبّرا عن سعادته-: "...رب وفقني بتذكرة لحضور حفل الفنانة أو الفنان..."، فهل كان يعتقدُ –وهو يقول ذلك- أن الله تعالى يحبُّ أن يراه في ذلك المكان حتى يسمّيه توفيقًا؟!..وهكذا الشأن بالنسبة لمن يستثمرُ بلُغة الربا والقمار والكِبْر ومسابقات اللهو، وبالغناء والرقص وكرة القدم بصورته الاحترافية(1) أو يعين على ذلك بحضور أو استثمار أو دعاية أو ما شابه ذلك، فالمعنى المقصود: أيّ لَهْوٍ تَضيعُ فيه الأخلاق والأوقات والأموال والأولويات فيما لا ينفع، فضلا عن أن يكون ذاك الشيء من المحرمات؛ فهل كان العبد يظن أن الله تعالى يحب أن يراه في تلكم الحال حتى يسمِّيَه "توفيقًا"؟!

 

والأمر أوسع: كلّ عمل لا يقرب إلى الله وإن كان يسمى في العرف نجاحًا فليس "توفيقا"

وليس الأمر منحصرًا فقط في اللهو، وإنما في كل عمل لا يُقَرّب إلى الله تعالى ولا يتوافق مع مراده سبحانه تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فكلُّ عِلم أو عَملٍ يعارض مراد الله تعالى لا ينبغي تَسميتُه في حال تحقيقه أو إنجازه "توفيقا" وإن كان في مُسمَّى عرف الناس صارَ "نجاحًا" و"ريادة" و"سعادة"، وهذا يشمل -ليس من باب الحصر-:

§       الإنجاز الناتج بالدخول بأي شكل من الأشكال في المعاملات الربوية وألعاب القمار، وإن أُعْطيتْ أسماءَ رَنّانة تتخِذ شكل منتجات.

§       وكذا من الاستثمارات الظالمة بالاحتكار والرشاوى والأنانية والكِبر وأكل الأموال بالباطل.

§       وكذا من التأمين الجائر الذي لا يعترف بالفقير، ولا حتى بمن يدفع أقساطه لو توقف هذا المشترك دقيقةً بعد انتهاء عقده (البوليصة)، فهم أصالة بمثابة مصارف ليسوا شركات تعاونية مجتمَعية تخدم المجتمع بجميع أصنافه كما يزعم الكثير منهم، وقد أثبتوا ذلك على أرض الواقع.

§       وكذا من الاستهزاء باللغة العربية وبدين المسلم، كون اللغة العربية أُزيحتْ مِنْ لُغة الأعمال في هذا الزمان، وكون المسلم المتمسّك بالدّين وقِيَمِه صار يُنظر إليه بنظرة التخلف والاشمئزاز بالنظر إلى ثقافة الغرب وتقدمهم. فنرى -على سبيل المثال- مِنَ الناس مَنْ يبيع لغته العربية وهويته المسلمة في أسواق العالم الافتراضي لتحقيقِ مكاسبَ "كالشّهرة" و"التأثير". فتحقيق مثل هذه (المكاسب!) بهذا الأسلوب لا يمكن عَدُّه توفيقًا بل خذلانا.

§       وكذا تحقيق الإنجازات مِن تغرير المسلمين بالمال وافتتانهم بالعصبية لأشخاصٍ أو نسبٍ أو جنسٍ أو لونٍ أو جنسيةٍ وامتحان إيمانهم بذلك، مع أن هذه الأشياء –كما يعلم الجميع- هي مِنَ الأمور التي حارب الشرعُ الافتخار بها وجعلها وسيلةَ قياسِ صلاحِ العِباد وبوصلةَ الولاء والنصرة والحبّ والبُغض. ثم إنّ الجنسية -على سبيل المثال- صارتْ في جميع أمكنة العالم تُباع وتشترى لأصحاب المِهَن والخِبرات ورؤوس الأموال، ولمن يسمَّوْنَ بأصْحاب المواهب من المغنيين والراقصين والممثلين واللاعبين مهما كانت صِبغتهم. فَلَمْ تعدْ الجنسيةُ مرتبطةً –كما هو الظاهر- بأصول الناس ولا بأوطانهم ولا سيما حينما تنظر إلى مَنْ يملك أكثرَ مِن جنسية ومِن بلدان متناقضة في كلِّ شيءٍ؛ وهو أمرٌ فرضته عوامل عدّة كالعولمة والاقتصاد. فَعَلَامَ -إذًا- يُـمْتحن إيمانُ الناس بها؟!

فهذا يشبه إلى حدّ كبير ما يحدثُ في أيّامِنا مِن امتحانَ إيمان الناس وقياسَ شرفهم(!) بمدى حبهم لكرة القدم(!) وتشجيع الفرق والمنتخبات؛ وهذا أمر آخر عجيب، وفي غاية الفساد لأنه يضاد ثوابت الشرع الحنيف المتعلّقة بالإيمان والأمانة. ولستُ أشكّ أنّه سيأتي -ربما- يومًا يَبدأ فيه المسلمون بالهجر الكُلّي للفرائض كالصلاة والحج والعمرة والجمعة وغير ذلك بإصدار فتاوى من المتسلّقين والانتهازيين وأصحاب الأجندات الخفية بجواز أدء الفرائض في العالم الافتراضي بواسطة ما يسمّى في عالم الميثافرس (MetaVerse) أو غيرها من العوالم، وإنْ لم تُؤَدَّ العبادة حقيقةً باللسان والجوارح أو في مكانها المفروض إن كانت متعلقة بمكان. فمن يدري؟!

§       تحقيق مكاسبَ وإنجازات مِنْ خلال نشرِ الكراهية بين المجتمعات المسلمة "الأمة الواحدة، أصحاب الدّين الواحد"، وبزرعِ الخوف والفتنة والفوضى في مجتماعتهم، وتمزِيق وحدتهم وتشتيتهم، والسّعيِ إلى إضعافِهم بل استضعافهم، وتَقَبّل ذلك وقَبُوله...ويدخل في هذا الباب: تحقيق مكاسب بإهمال شؤون ضعفاء المسلمين في أيّ مكان هُمْ في أمس الحاجة إلى نصرة وعطف وعزة وكرامة؛ فالله تعالى يقول في كتابه (إنما المؤمنون إخوة)، وفي الحديث الصحيح (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فَرّج عن مسلم كربةَ فَرّجَ الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن سَتَر مُسلِمًا ستره الله يوم القيامة)، هكذا هي رابطة الأخوة الإيمانية الحَقّة كما جاءت في النصوص، حيث جعلَها الشّرعُ في أعلى مراتب الروابط.

§       تحقيق مكاسب ومآرب مِنْ وراء رَمْي دعوات المشْفقين على مجتمعاتهم وأُمَّتِهم بالرَّجعية والتخلف وألقاب أخرى غاية في السوء؛ وهي ظاهرة تدلّ على فُشُوّ استهتار الكثير من أهل هذا الزمان بأي شيء مرتبط بالتمسك بالكتاب والسّنة النّبويّة والرجوع إليهما (=الفِطرة) إنْ صادم هذا الإصْلاح المنشود مآرب سُـمِّيتْ بغيرِ أسْمائِها، حتى وإنْ تعلق الأمر بمحاربة تقبّل الشذوذ الجنسي -على سبيل المثال- الذي كَثُرتْ الدعوات إليه- فإنّك ستجد في مجتمعات المسلمين -وللأسف- مَنْ يدافع عن فعل الشذوذ الجنسي بكل قوة مِنْ بابِ الحريّة الشّخصية، نابزًا كلَّ مَنْ يُنكر ذَلك مِنَ المصلحين وذوي الفطر السّليمة.

فَالـهَمُّ الظاهر والمتفشي في مجتمعاتنا هو تحقيق المال والكسب السريع والشهرة والقوة والريادة بقطع النظر عن شرعية الوسائل وسلامة الآثار؛ فها هم أطفالنا نراهم تُغْرس في أنفسهم مثل هذه الأهداف بصُور عاريةٍ عن الثوابت الإيمانية والقيم الأخلاقية، التي سرعان ما تتحول -تلك الأهداف المعزولة- إلى قَلقٍ وهُموم واضطرابات عقلية ونفسية تُوَرَّثُ لأجيال عديدة...فمن سيتحمّل المسؤولية؟

 

إلى غير ذلك مِنْ أمثلةِ تحقيقِ المكاسبِ والمآرب والإنجازات من شهرة ومال وقوة وجوائز وغير ذلك، مَتَى تحقّقتْ بطرقٍ فاسدةٍ تؤثر سَلبًا على العقول والأعراض والأنفس والأموال وارتباطِ النّاس بدينهم الإسلام ويقِيَمِه الأخلاقية، ومتى أُنجزِتْ بطرقٍ فاسدةٍ تمسُّ توحيدَهم وإيمانَهم بإدخال مَا يعكّر صفو وحدتهم وتوحيدهم وسلامة قلوبهم كامتحانِهم بأشياء لم يَفرضْها ربُّنا لا في كتابه ولا في سُنّة نبيّه، ولا نجدها في كلام خير القرون ولا مَن بعدهم مِن صالحي الأمة وأَعْلامِها.

...والمقصود أنّ هذا النوع من الأعمال وإن كان أغلبها في عُرف بعض الناس تُغَلَّفُ وتُصبَغُ بشكل إنجازاتٍ وفَتْح ونجاح وسعادة وصلاح وإصلاح وذكاء وعبقرية وريادة إلا أنّ حقيقتها -بالنظر إلى حيثياتها ووسائلها وآثارها - ضياعٌ وخذلانٌ وغرورٌ، ولَا يُصلحها إلا التّوفيق إلى توبةٍ نصوحٍ، وضبط تصرفاتنا وأعمالنا وَفق مُراد ربنا سبحانه وتعالى ومراد نبيه صلى الله عليه وسلم.

وانظر إلى قول السِّعدي في تفسير آية أصحاب القرية الذين رفضوا دعوة المرسلين: "فقال أصحاب القرية لرسلهم: (إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ) أي: لم نر على قدومكم علينا واتصالكم بنا إلا الشر، وهذا من أعجب العجائب، أن يجعل مَنْ قَدِم عليهم بأَجَلّ نعمة ينعم الله بها على العباد، وأَجَلّ كرامة يكرمهم بها، وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة، قد قدم بحالة شر، زادت على الشر الذي هم عليه، واستشأموا بها، ولكن الخذلان وعدم التوفيق، يصنع بصاحبه أعظم مما يصنع به عدوه".

أرأيتَ كيفَ أنّ أصحاب القرية اعتقدوا أنّ أفعالهم توفيقٌ بينما هي في قمّة الخذلان؟ وذلك من وجهين: الأول: من جهة الفِعل ذاته، والثاني: من جهة أن العبد صار يعتقد أن سلوك طريق المعاصي وصناعة المآسي بركة ورضًا وسعادةً وريادة وتوفيقًا.

والله وحده الموفق إلى ما يحب ويرضى.

 

-----------------

(1)            المقصود كرة القدم الحديثة بصورتها الاسثمارية والاحترافية التي أشغلت العالم أجمع والأجيال المتعاقبة بمسابقاتها التي لا تكاد تنتهي على مدار أيام السّنَة ولياليها، فضلا عن آثارها السلبية التي خَلّفَتها ولا تزال تُخلّفُها على الأفراد والمجتمعات.

تعليقات

الأكثر قراءة

touch wood , cross finger, Jesus (Christ!)...

مناقشة هادئة: السّبتُ بين صيامه قصدًا وصيامِه تبعًا

البرّ لا يبلى.. والإثم لا يُنسى والديان لا يموت.. فكن كما شئت (كما تَدين تُدان)