المحفزات الجديدة وفساد القلوب
مما
نشاهده في زماننا وقد وقَعَ فيه الكثيرُ منَّا هو تحفيز الأنفس وحملها على
الاطمئنان بأشياء لا تزيد النفس إلا ضعفًا وبعدًا وقلقًا وغرورًا ويَأسًا. فَمثلا تجدُ
شخصًا مريضًا أو منهكا أو حزينا -لسبب ما- إلا أنّه حينَما يتذكر قادم مباراة
فريقه تسكن نفسه، وينسي ألمه؛ فكلّه شغف لمشاهدة هذه المباراة، أو حضور تلك الحفلة،
أو مشاهدة ذاك الفلم، أو حضور هذا المهرجان أو هذه المناسبة الكروية أو غير ذلك من
مناسبات اللهو؛ وقل مثل ذلك سواء في الفرح أو الحزن حينما تأتيه زيادة في مال أو
في أملاك أو في رتبة وظيفية أو مجتمعية إلى غير ذلك من الأمور التي باتت في زماننا
عند الكثيرين وسائل تطمين يقابلون بها أعباء الحياة وظروفها السعيدة والحزينة؛ فيَدخل
القلبَ ذاك الإحساسُ "الشّبيهُ" بالاطمئنان والسّرور، فما إن تنتهي هذه المناسبة
حتى يعودَ إلى سابق عهده، بل أضعف من ذلك.
أقول
"أضعف من ذلك"، لأن هذه الأمور –المادية والتي بعضها لهو- لم تكن يومًا
وسائل تحفيز أو اطمئنان لمواجهة خطوب الزمن أو الاستعداد لما سيأتي؛ فالله تعالى
هو خالق هذه النفس وهو العالم بما تحتاجه من محفزات ومنبهات لتبقى طول حياتها عابدة
يقظة مطمئنة، عارفة بأولوياتها وبأهدافها التي خُلقت من أجلها، وعالمة بما ينتظرها
في الحياة الآخرة من نعيم أبدي لا مثيل له إذا ما أحسنت الاعتقاد والعمل في حياتها
الدنيا. فقد أرشدنا ربنا تعالى إلى الوسائل المحفزة للفوز الحقيقي؛ فقال تعالى: (وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ یُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتࣲ
تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ وَذَ لِكَ ٱلۡفَوۡزُ
ٱلۡعَظِیمُ)، وقال تعالى: (قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا یَوۡمُ یَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِینَ
صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّـٰتࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ
أَبَدࣰاۖ رَّضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُوا۟ عَنۡهُۚ ذَ لِكَ ٱلۡفَوۡزُ
ٱلۡعَظِیمُ)، وقال تعالى: (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ جَنَّـٰتࣲ
تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا وَمَسَـٰكِنَ طَیِّبَةࣰ
فِی جَنَّـٰتِ عَدۡنࣲۚ وَرِضۡوَ ٰنࣱ مِّنَ
ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ ذَ لِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ)،
وقال تعالى (وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَـٰجِرِینَ
وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَـٰنࣲ رَّضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ
وَرَضُوا۟ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ
خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۚ ذَ لِكَ ٱلۡفَوۡزُ
ٱلۡعَظِیمُ)، وقال تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَنفُسَهُمۡ
وَأَمۡوَ ٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ
فَیَقۡتُلُونَ وَیُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَیۡهِ حَقࣰّا فِی ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِیلِ
وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُوا۟ بِبَیۡعِكُمُ
ٱلَّذِی بَایَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَ لِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ)،
وقال تعالى :( یَوۡمَ یَجۡمَعُكُمۡ
لِیَوۡمِ ٱلۡجَمۡعِۖ ذَ لِكَ یَوۡمُ ٱلتَّغَابُنِۗ وَمَن یُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ وَیَعۡمَلۡ
صَـٰلِحࣰا یُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَیِّـَٔاتِهِۦ وَیُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن
تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۚ ذَ لِكَ ٱلۡفَوۡزُ
ٱلۡعَظِیمُ)؛ وغير ذلك من الآيات.
والمقصود
أن ننتبه مِن جَعل مثل تلك الأشياء المذكورة سابقا وما شابهها وسائل تحفيز وأدوات اطمئنان
وفرح وسعادة لتخطي الحقائق؛ فما هي في الحقيقة –وفي هذا المقام- إلا مهدّئات تتقل
العبد تدريجا من حالته الطبيعية إلى الغفلة وضياعٍ في الدين والخُلُق والمال
والعقل. ومع تكرار هذا الفعل وبمرور الزمن قد يُطبع على القلب، فلا يعد صالحا
للتفرقة بين المنكر والمعروف، ولا بين الخير والشر، ولا بين الفساد والصلاح، ولا بين
دينه الإسلام وغيره؛ فتزداد لديه القابلية للفساد،
فيستغلها المتربصون المغرورون أيَّما استغلال –كما يفعلون الآن- لنشر المزيد
والمزيد من الفتن والشبهات من كل جانب، وربما لا يستيقظ مثل هذا العبد الغافل إلا
بعد فوات الأوان.
ولذلك
ينبغي على المسلم –لمواجهة هذه الأخطار- أن يعيش في هذه الدنيا ليس كونه إنسانا
فقط -كما يريد البعض أن يُلزم الناس بذلك-، بل عليه
أن يحيا كلّ لحظة من حياته كـــ "إنسانٍ مُسلمٍ مؤمن بالله ورسوله محمد صلى
الله عليه وسلّم"، له رسالة وهدف في هذه الحياة؛ لتتوازن معادلة
الحقوق والواجبات، وتكون أعماله كلّها صالحة خالصة لله فيفوز بذاك "الفوز
العظيم". فَدِينُ المسلم لا ينفصل البتّة عن إنسانيته ولا عن تطوره ولا عن
مسؤولياتها ولا عن حياته كلها مهما كانت الظروف والمغريات.
ولنا
في رسول الله إسوة حسنة؛ فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم كلّها لله تعالى وخُلُقُه
-كما قالت عائشة -كان "القرآن"، وعلى ذلك رَبَّى -صلى الله عليه وسلم- صحابتَهُ
الكرامَ وبنى بهم الخلافةَ الرّاشدة، وهم بدروهم فعلوا ذلك مع أجيالهم؛ فخرجت جميعها
أجيال صدق وسياسة وعدل وعلم وعمل وتطوّر؛ فكان الدّين كلّه لله، وكانوا قمة في الفقه
والأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانوا رُوّادًا في مجالات الحياة المتنوعة
من صناعة، واستراتيجيات عسكرية وإدارية، وعلاقات دولية، وفي مجال الزراعة، والتجارة،
والطب، والفلك، والرياضيات، والكيمياء، والتاريخ وغير ذلك؛ وأخضعوا لهم الأمم الأمة
تلو الأخرى. فَلَمْ نسمع بمن يقول أنّ التمسك بالدّين الإسلامي في مجالات الحياة وتحرِّي
الحلال وإقامة العدل المأمورين به يُعارض التطوّرَ الماديّ ومواكبته والاستقرار والاستمرارية
إلا من أهل هذا الزمان...و-للأسف!- نسمعه كذلك مِنْ مُسْلمين! في محاولاتٍ من هذا البعض
-المؤثر- لتحويل الإسلام إلى مجرد رموز لا يتعدى جدران المساجد والمكاتب، ولا
يتعدى أوراق الكتب والمصاحف، ولجعلِ القرآن مجرد مادة للمسابقات وتاريخ الأمم والأدب
العربي!!؛ فصار المسجد يسمّونه "دار عبادة" شأنه شأن الكنائس وما شابهها
بدلا من استعمال اسم "المسجد"، والملتزم صاروا يلقبونه بـ"رجل دين"
وغير ذلك من أسماء وألقاب غير لائقة، بل ليست لها صلة بالإسلام. ووجه ذلك أنّ اللهُ
تعالى فضّل هذه الأمة –أمة محمد صلى الله عليه وسلم- بأن جعل الأرض كلها مسجدا؛
فالمسلم يعبد الله تعالى في كل مكان على هذه الأرض عدَا المقبرة والحمَّام كما
جاءت بذلك النصوص؛ وأنَّ التزام المسلم بدينه وعبادته لربه ومتابعته لنبيه وتحريه
الحلال، وتعلم مهامّات الدين -مِن توحيدٍ وفرائضَ وأحكامٍ- وتطبيقها على أرض الواقع
وفي جميع مجالات الحياة لا تنفصل البتة عن كونه إنسانًا حتى يُسمَّى نوعٌ
معين من الناس بـ"رجال دين" -شأن رجال دين اليهود والنصارى وعبدة
الأوثان- في تلميحٍ منهم بأن التزام الناس بالدّين الإسلامي ومعرفة الحلال والحرام
وتحقيق تعاليمه –عقيدة وفقها وخُلُقا- على أرض واقعهم لا يناسب الواقع ولا التطور
ولا المسمى بالانفتاح(؟) ولا الأخوة الإنسانية(؟) ولا الحرية الشخصية(؟) ولا
الارتقاء في سلم السعادة(؟) أو في سلالم المجلات والهيئات الغربية الاقتصادية
والسياسية والاجتماعية ذات المقاييس الغربية المادية المحضة؛ فيقتصر التمسك
بالدّين –في نظر هذا الصنف من الناس- على الشيوخ فقط أو طلبة العلم الشرعيّ في
حدود مكتباتهم، والإسلام لا يتعدى حدود "المساجد"، وإذا ما احتِيجَ إلى
الإسلام فإنه لا يُحتاجُ إليه إلا وقت تحقيق مآرب شخصية. وهذا
كله في الواقع مزلق خطير، ولا تعْدو كونَها مغالطات فاضحة، فعَلى المسلم أن يتفطن
لما يحاك من حوله، ويسعى قدر المستطاع –كونه مسلما مؤمنا بالله ورسولِه- أن يجعلَ
ما يُحفزّه في هذه الدنيا هو الفوز برضا الله تعالى وبما عنده من نعيم أبدي لا بالنظر
إلى الظواهر في زمن المادة وانقلاب موازين الفطرة ومقاييس الصّلاح والتّقدّم.
فاللهم رُدَّنَا إلى دِينك رَدًّا جَميلًا، واهدِنا فيمن هديت وعافنا
فيمن عافيت، وقنا -اللهمّ- الفتنَ ما ظهر منها وما بطن!
تعليقات
إرسال تعليق