هل نقول (الشّريعة صَالِحةٌ لكلِّ مكانٍ وزمانٍ) أم (مصلحة لكل مكان وزمان)؟


الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه وأُصلّي وأُسلّم على نبِيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وبعدُ:
فهذه لطيفةٌ مِنْ فضول العِلْم تطرّقتُ إليها -باختصارٍ- تخص استعمال مصطلح (صالح) و(مصلح) في معرض الكلام عن نصوص الوحيين. وهي مسألةٌ –في الواقع- ليستْ خطيرةً ولا ذاتَ خطورةٍ لتحظى بكلّ هذا الاهتامِ ولكنَّ المقصد ترويض النفوس على قبول الخلاف وسماع الرأي المخالف.
وفي هذا المبحث الموجز سيتضح للقارئ الكريم بأنّ الأمرَ واسعٌ فلك أن تقول (الشريعة صالحة) أو(مصلحة) بل إنَّ استعمالَ لفظِ (صالح) هو الأوفر حظًا من حيث اللغةُ والأكثر استعمالا عند أهل الاختصاص. فأقولُ –وبالله التوفيق- :
يرى أهلُ الاشتقاق بأنَّ أصولَ مادةِ (صَلَح)  تدلّ على خلافِ الفَساد. يُقال: صَلَح الشّيء يصلُح صَلاحًا [المقاييس 3: 303].
ويقول الأزهريُّ في (التهذيب): الصّلاحُ نقيضُ الفسادِ، والإصلاحُ نقيض الإفسادُ. رجلٌ صالح: مُصْلحٌ والصّالح في نفسه والمصلح في أعماله وأموره.
ومِثلُ هذا الكلامِ تجدُه في (كتابِ الأفعال) للسّرَقسطي، وفي (كتاب العين) إلا أنّه زاد: والصّلاح ضدّ الطلاح.
وفي (معجم الفروق) في (الفرق بين الصالح والمصلح) يقول العسكري رحمه الله: (....
الصالح: عامل الصلاح الذي يقوم به حاله في دنياه.
وأما المصلح: فهو فاعل الصلاح يقوم به أمر من الأمور).
والأمر يزدادُ وضوحًا متى علمتَ أنّ لفظَ (مصلِح) هو اسمُ فاعلٍ لـ (أصلح)، وأصلحتُ الأمرَ فصَلَح.
وَأمّا (صَالِحٌ) فهو اسم فاعل لـ صَلَح أو صَلُح بفتح عينِ الفعل وضمّها.
وجاء في (اللسان):(  وربمّا كنوْا  بالصالح عن الشّيء الذي هو إلى الكثرة؛ كقول يعقوب:  مغرَتْ في الأرض مغرةٌ من مطر؛ وهي مطرة صالحةٌ.
وهذا الشيء يصلحُ لك؛ أي هو من بابتك).
وأمّا قول النّاس (الشّريعة صالحة...) فالمقصودُ: صالحةٌ في ذاتِها من حيثُ نصوصُها، و لكنّ أثرَ الصّلاحِ لا يظهرُ إلا إذا قام فاعلٌ بذلك.
وهذا المعنى تؤيده النّصوص فالكتاب والسّنة –كما هو معلوم- يحذّران من الابتعاد عن الدّين ويؤكّدان لزومَ الاعتصام بهما حتى لا يعمّ الفساد. فمن ذلك قولُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذُلًّا لَا ينزِعُه عنكم حتى تعودُوا إلى دينكم).
وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:(تركتكم على البيضاء ليلها كنارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، وقوله صلّى الله عليه وسلم: (تركتم فيكم أمرين لن تضلُّوا إذا تمسّكتم بهما: الكتاب والسنة)، وذلك لأنهما مَصدَر صلاح وإصلاح.
ثمّ إنّ لفظَ (مصلح) لم يأت في القرآن إلا وهو دائمُ الارتباطِ بمن يقومُ بالإصلاح وذلك لتوفّر مادة الصّلاح في أحوالهم؛ فقد جاءَ في أربعةِ مواضعَ: في موضعين في (سورة البقرة)؛ الأول: (قالوا إنما نحن مصلحون)، والثاني: (والله يعلم المفسد من المصلح)، و(هود) (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)، و(الأعراف) (إنا لا نضيع أجر المصلحين)، و(القصص) (وما تريد أن تكون من المصلحين) مما يدلك على أن استعماله ينحصر -غالبًا- فيمن يقومُ بالإصلاحِ الذي ضدّه الإفساد، والقائم على هذا الإصلاح لا يمكنه فعلُ ذلك إلا إذا توفّرتُ فيه أو عنده مادّة الصّلاح.
وأمّا الدليل العقلي: فإننا نشاهد عموم الفساد الذي حلّ في هذه الأزمنة بسببِ ابتعادِ المسلمين عن (الكتاب والسّنّة) مع أنّ الشريعة صالحة للإصلاح لم يطرأ عليها أي تبديل كما وعد الله تعالى بذلك.
فقولُ النّاس اليوم (الشريعةُ صالحةٌ لكل زمان ومكان) جاء –في حقيقة الأمر- في مقابلة مَنْ يقول بأنَّ الشريعة قاصرةٌ لا تغطّي متطلبات العصر! وقد كتبَ العديدُ مِنَ الفُضلاء في الردّ عليهم مستعملين لفظ (صالحة). فمِنْ بَين مَن كتبَ العلامةُ محمد الخضر حسين في رسالة سمّاها (الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان) وهو من أهل اللغة والعلم بل مِنْ عُلمائها كما هو معلوم عند عامّة الناس.
وإليك-زيادةً- بعضُ الأمثلةِ في استعمالِ هذا المصطلحِ:
فقد استعمله ابنُ العثيمين في شروحه وهو معروفٌ بحرصه على الجمعِ بينَ اللّغة والفقه -رحمه الله تعالى-. وانظر –إن شئتَ- (شرح الأصول الثلاثة)(ص 34) ط.دار الآثار.
وهو -أيضًا-استعمال أهل الأصول في مبحث (شرع من قبلنا): هل هو شرع لنا؟
والمعنى: هل يصلح أن يكونَ شرعًا لنا؟
وبمعنى آخر: هل هو صالحٌ لنا؟!
ولا أحدَ يشكّ بأن شرعَ مَنْ قبلنا مصلحٌ لأنّه منزّل مِنْ عندِ اللهِ تعالى ولكنّه غير صالح لنا بالتفصيل المذكور في كتبِ الأصول.
وكذا مبحثُ (تغيّر الفتوى بتغيّر الزمان والمكان) فلَوْ لم تكن الشّريعةُ صالحةً لكل زمان ومكان لما تغيرت الفتوى لِتُناسب حالا معينة وإلا فهي دائمةُ الإصلاحِ.
وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم (ألا إنَّ في الجسد مضغة إذا صلَحت صَلَح الجسدُ كلُّه وإذا فسدَت فسَدَ الجسدُ كلُّه)؛ فماذا نقول عن هذه المضغة: صالحة أم مُصلحة؟  
والخلاصةُ أنَّ الصّلاحَ متعلّقٌ بنصوصِ الشّرعِ مِنْ حيثُ صَلاحيتها للإصلاح، وهذا الصلاح لا تظهر آثاره إلّا إذا وُجِد مَن يقومُ بذلك مِنَ المصلحين كما سبق بيانه.
والمسألةُ كما قلنا ليستْ بحاجةٍ إلى أن تُعطى أكثر مِن حجمها وقدْ نقلتُ لك مَا تقَرّ به العينُ ويطمئنّ له القلب فَلَكَ أنْ تستعمل العبارتين، بل إنّ قولَك (الشّريعة صالحة لكل زمان ومكان) أحكمُ والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمّدٍ وعلى آله وصحْبِه وسلّم.

تعليقات