مغامرات (أبو طلب) (2): مكالمة تلفونية والعُزلةُ المصْطنَعةُ

 

مغامرات (أبو طلب) (2): مكالمة تلفونية والعُزلةُ المصْطنَعةُ

 

هَكَذَا تُطْوى أحزانُ قِصّةِ لتُفتح أخْرى...

اتّصلْتُ به مرّةً، ومرّتين، بل ثلاثًا وسبعًا، يسمَعُ ولا يجيبُ، ولا يريدُ. إنه ليس غريبًا عنّي ولستُ غريبًا عنه؛ أخٌ لي في الدّين عَرَفْته ولا يعرِفُني، وَلا يريدُ. فَثمّنتُ برسالةٍ قصيرةٍ  ألفاظها أثْمنُ مِنْ (جوّالي)، لا تستعملُ إلا في مخاطبةِ الوزراء والكبراء. زيّنْتها بألوانٍ مِن التّبريكات، والدّعاء بالخيراتِ، لا يصادفها إلا في كتابٍ، ولا تقالُ إلا لمثل أصحابِ (الكتابِ)؛ لكنّه أبى إلا أن يكبتَ أنفاسَه توبيخًا لها وتقريعًا لأنّها لم ترِدْ إلّا الإحسانَ؛ فهكذا طِباعُ النّفسِ تحمِلُ المرءَ على ألاّ يَعافَ إلا مَا يخرجُ مِنْ غَيْرهِ، أَسَاءَ أمْ أَحْسَن.

أحسنتُ الظنَّ بِهِ وما أحْسَنتُ، بل كِدْتُ أقولُ: لَيتَنِي أسأتُ! فبعدَ عناءٍ شديدٍ بَعثَ بِرِسالةٍ مِنْ خمسةِ أحرفٍ، وأربعةٍ بعدَ حذفِ مكرّرِها؛ يقولُ: (مَنْ أَنْتَ؟! )

فَكَّرْتُ في جَوابٍ... فاحْترتُ...ولَوْ كنتَ مكاني؛ فلنْ يكونَ حالُك أحسنَ مِنْ حَالِي!

وَلَو اسْتَعْمَلتَ (جوّالًا) أثمن، فلَنْ تكونَ أذكى مِنْ (جوّالي)؛ لأنَّ الرّسالة ستبقى هي هي بأحرفِها الأربعةِ !! فهو يتكلّمُ  بلغةٍ حروفُها لا تخرجُ إلا مِنَ أنوفٍ مصدوعةٍ، فماذا تنتظرُ مِنْ شيءٍ -كهذَا- لا يُفارقُ المنديلَ ولا هِيَ تُفَارِقُه؟!

فكّرتُ أنْ أقولَ له: أنا فلان ابن فلان، ولكنّي تراجَعْتُ موبِّخًا نَفْسي: ومَنْ تكونين -أنتِ- ليكون كذا الجوَاب..؟!

فمثلُ هذا الجوابِ ترويجُه –في أيّامنا- عَسِر جدًّا إلا إذا صدَر مِنْ  مَليٍّ!...مَليٍّ!...مَليٍّ! لَا مِنْ شُربِ زَمزم كما يفعله الزائرُ، ولكن مما يخرجُ مِنْ زوّار هذه الدّنيا! ومتَى غفلَ الضّيفُ أنّه ضَيْفٌ، والمضِيفُ أنّه مُضِيفٌ؛ فَحُشَ الطّمَعُ واشتدّ الخوفُ: طمعُ البقاءِ وخوفُ الفَناءِ.

جَهدتُ في البحثِ عن كلمة السّرّ التي تُدخلُني شبكتَه، لا قلبَه؛ فلَم أجدْ سوى استعمالِ أسلوبِ (الواسطةِ!)، فكتَبْتُ –دون تردّدٍ-: أنا مِنْ طَرفِ الشّيخ الفلانيّ ؛ فكان الفتح ولله الحمد!

كيف لا؟!

كيف لا؟! ومادّة الموضوع لا تقاوَم؛ فالمادّة  -في هذا الزمان- تُعَدّ مِنْ  أنجعِ أسرارِ الفَتْح التي -ربما- قد تجعلك من المقدَّمين عند المقدَّمين.

...فانتبه أخي المسلم مع مَنْ تتكّلمُ، وكيف تتكّلمُ، ولا تكن مِنَ الغافِلين المتأخّرين.

...

فهذه  قِصّةٌ مِن آلافِ القصص  ...لو تُركتْ الأقلامُ لترسمَ أجزاءَها، وتظهرَ أحزانَها؛ لأنتجتْ مجلّداتٍ ومجلّداتٍ قد تعجز دورُ النّشر بأجمعِها على تقدِيمها إلى قرّائِها، لا بسبب كَثْرتها، ولا لما حوتْه مِنْ أحزان، ولَكِنْ! لأنَّها (قصصٌ انتهتْ إلى أحزانٍ)..

ولا أشكّ أنّهُ مَا مِنْ أحدٍ يقرأ كلامي هذا إلا و قد عادتْ به ذاكرتُه حيثُ بَدأتْ قِصّتي، فلا تحزن أيّها الأخ وانظر إلى غروبِ الشَّمسِ وبديعِ ألوانه؛ فإنّها ستُشْرِقُ يومًا إمّا عليْك، أو على أبنائك؛ فاحرصْ على ألّا يذكروكَ إلا بجَميلٍ.

ومناسبةُ حكايتِي قصّتِي أنّ أحدَ الفضلاء مِنْ بلادٍ بعيدةٍ اتّصل بي؛ وصوتُه حزينٌ جدًّا كأنه فَقَدَ عزيزًا، أو فارقَ حَبيًا، يُخفى دُموعَه خشيةَ أنْ ينهارَ؛ فتنقلبُ المكالمةُ إلى مناحةٍ؛ سَألني بعد أن سردَ مقدّمةً كمقدّمِتي:  لماذَا طلبةُ العلم اشتُهِروا بعدمِ الرّد على (الهواتف)؟

أهكذا تعلَّمُوا مِنْ مَشايخهم؟ أم مشايخُهم هكذَا علّمُوهم؟! أم ماذا ...؟!

إلى أن قال: صرتُ أتحاشى الاتصال بهم معَ أنّني أحبهم! فهلاّ أَرْشدتَني إلى كتابٍ يجمعُ بين دفَّتيْه طرائق تعامُلهم، ولا أزعجهم بوُصْلة لا تُعْجِبُهم؟! ثمّ أرجوكَ! دُلّني على طبعةٍ رخيصةٍ ذاتِ أوراقٍ بيضاءَ خفيفةٍ، فأنا لا تهمّني زخْرفةُ الأغلفة و أشكال الخطوطِ طالما الأصلُ هُوَ هُوَ،  والهوامشُ هي هي!!  فالمؤلفون اليوم –وهو أمرٌ يَئِسْنا من إخْفَائه- يتصارعون في حَوْشِ الدَّارَاتِ كَتصارعِ الوحوشِ الّذي غالبًا ما ينتهي إلى افتراسٍ...

هكذا وبِكل عفوية خرجَ من (جوّالِه) الحديثِ هذا الحديثُ...

فهذا الصديقُ الفاضلُ ظنَّ أنّ المكتباتِ تزخرُ بقاموسٍ يجمع قوانين السّير والسّلوك لهذَا الصّنف، بل ربما أَخذتْه مخائلُه إلى مسائلَ بعضُ عناوينِها أقربُ إلى الدِّعايات التي تَسْمعُهَا رُغمًا عنكَ وأنْت تُقِلُّ وسيلةً من وسائل النّقلِ:

( قِفْ! ولا تزعج طالبَ العلم باتصالاتك...!)...

 (كيف تصير محقّقًا بارعًا في ساعة!)...

(لا تضيّع وقتَكَ معَ المبتدئ...!)...

(كيف تُدير مصنعًا للتّحقيقِ؟..الحلّ عندنا..!)...

(خمس خطوات نحو الفتوى العالمية...!)..

(انتحل التأليف...فقطْ! حدّد ضحيّتك!)... وهكذا...

....

أمّا بعدُ؛

فيا طالبَ العلْمِ، ويا وارثَ علمِ النّبوّةِ:

 إنْ كنتَ مِنْ هَذَا الصّنف الذي يَسْعَى لصُنعِ (بروتوكولات (!)للتعامل)، ولا تحبُّ أن تكلّمَ غيرَك إلا بعدَ عناءٍ ومعاناةٍ، فاسمحْ لي أنْ أتدخّلَ؛ لأقولَ لك:  لقد أسأتَ وظلمتَ!

لأنّ الاعتذارَ بإلزام غيركِ بالبحثِ عن الأعذارِ التي تخرجُك سَالـِما مِنْ تَصاريفِ أفْعَالِك ليس المنهجَ الذي تعلّمْناه مِنَ الرّبانيين؛ الذين لا نَعرفُ قِيمتَهم، ولا نَعْتِرفُ بقِيَمهم إلا بعدَ أن نَمْشِي في جَنَائِزِهم!

فهل يُعقل في كلّ محاولةٍ لتكليمك –أيّها الحبيب(!)- أن تلزِمَنا بالتنقيبِ عنْ سبعين عذرًا...؟!!

فمعذرةً...! لَوْ أنّ خمسةً ممّن يحبّونَك أرادُوا أن يسمعوكَ أنفاسَهم  -وأنتَ تَرْفُضُهم!- فسيصبح مجموعُ أعذارِك مع المكرّر: 70 * 5 = 350 عذرًا !!

فهل مِنْ رحمة المسلم بالمسلم أن يُرغِمَ أخاه بالدّخول في حساباتِ لعلّ... وعسى... وربّما...في كلّ يَومٍ وفي كل ساعة وفي كلّ لحظة ليفوزَ بهذا السّماع؟! وليتَه سماعٌ كذاك الذي يَربِطُك بنور النّبوّة في سلسلة ذهبيّة متّصلةٍ... والمصيبة أنّنا لـم نظفَرْ –مِنْه- لا بهذا ولا بذاك!!

فأيْنَ المحبّةُ التي تدِّعيها؟

وأين ادعاؤُك المحبّة؟

ثمّ أيْنَ أخفيتَ نصوصَ المخالطة، والملاطفةِ، وحسنِ الجوار والحِوار، وإلقاء السلام وردّه دون تمييز ولا تعجيزٍ؟!

...

فيا لَلْعَجَبِ من هذا الصنّف! تَراهم يُنشدون مَقاماتِ العُزلةِ –صباحَ مساءَ- ، ويُظهرون آثار الفُرقة -ليلَ نهارَ- وأجسادُهم لا تُفارقُ أسوارَ المدنِ، ولا أسواق القرى!! فلْيتركوا -إذًا- مُدُنَهم ولْيعتزلوا قُراهم، وَلْيتوجّهوا إلى شقاقِ الجِبال حيثُ الشّفقةُ والرّحمةُ!  لا رحمةَ الأمّ بوَلِيدِها، ولا شفقةُ الوالدِ على وَلِدِه، ولكنّها رحمةُ الضّباع بالغزلان، وشفَقةُ البُومِ على الفئران!

فحتى هذا هُمْ بعيدُون عنه، لأنّ حبائلَ عُزْلَتِهِمْ ستجذِبُهم إلى الوراء والعراءِ!!  فحسبهم -إذًا- أن يستروا عوراتِهم لإقامِ الصّلاة، ويدَّخِرُوا أموالهم لإيتاءِ الزّكاة!

وإنْ تعجبْ -أكثر- فعجبٌ أن ترى هذا الصّنفَ يتّخذُ  كبيرَه -في هذا الأمر- الأُسوة والعزوة؛  ليصيّروه -رُغما عنّي وعنك- منهجًا علميًّا، فعمليّا يُدعى إليه.

ولو سألتَه؛ لاعتذر بالتّأليفِ والتّحقيق و...و...وفسادِ أهل هذا الزّمان وهو مِنْهُ...

ولو ناقشتَه؛ لسفّهك مُخرجًا إيّاك مِنْ دائرةِ العلمِ و أقطارِه؛ كأنّه ليس يوجدُ على ظهرِ هذه البسيطة وباطِنِها مَنْ هو أفقَه منه مِنْ واقعِك وموْقعِك، بل كأنّ العلمَ قَدْ زُوِيَ له ظاهرَه وباطنَه! أهو غرورٌ بالنّفسِ أم استهزاءٌ بالأنفسِ؟

ما بَال هذا (الوارثِ) كانَ قبلَ أن يركبَ قطار الطلب يحمِلُ بكلّ خِفَّةٍ حقائب التّواضعِ؛ يُكلِّمُ هذَا ويساعد ذاك، وها هُوَ -الآن- وبعد أنْ عَادَ مِنْ رِحلتِه- أهدَى أُمَّتَه التي كانتْ تنتظِرُه بكُلّ شَغَفٍ أهْدَى إليها ثِقالًا لا تُحْمَل،  فيا لَيْتَه بقي على جهله!

فواخيبتاه! كنتُ أظنّكَ الحبيبُ المؤنس، وإذْ بِك حبيبٌ تفتِرسُ كالأسدِ الذي إذَا أرادَ  أنْ يبرهنَ على حُبّه لفريسته؛ يُطاردُها، ثمّ يَدْفنُ أنينها في أحشائه.

ويا أسفاه! فسأتوقّفُ عن إجهاد نفسي في التنقيبِ عمّن يُربّي هذه الأجيالَ؛ لأنّي على قناعةٍ بأنّ نورَ الشّمسِ وما طلعتْ عليه هي أنفَسُ -عندهم- مِنْ أنوار الهدى!! فليس لي إلّا أن أصدق مقولةَ القائل: (العلماءُ والخطباءُ والكُتّابُ في هذِه الأمّةِ كثيرٌ، ولكنَّ الرِّجالَ قليلٌ)!

 ...

ثمّ ليس عندي زيادةً عَنْ أَسَفِي وخيبةِ أملي سِوى أنْ أبشرَّك بأني جاعلٌ العلْمَ حَدًّا بيني وبينك؛ لأنني على يقينٍ أنّ مثلَ هذا النّورِ الذي قَدْ يأتي مِنْ غيرك مزعجُك، وإيقافُه أمرٌ يُعجزك، بل قَدْ تعجزُ –يومًا- عن إسكاتٍ وإسقاطِ ذاك (الجوّال!) الذي سينتفِضُ عليك ليصلَ ما قطَعَتْهُ سِكّينَةُ عُزلتِك المصْطنعة!

تعليقات