مغامرات (أبو طلب) (3): مُفَكِّرة خَائنة

 مغامرات (أبو طلب) (3):  مُفَكِّرة خَائنة


اجتمعَ رأيُ مثقّفِي بني البشرِ على أنَّ المفكّرةَ ليستْ إلاّ أداةً لتقييدِ وجمْعِ ما قد يكونُ مصيرُه النسيانَ مِنْ أعمالهم التي يضِنّون عليها كلَّ الضِّنّ. وبكلّ ثقةٍ! أستطيع أن أقولَ بأنّ قاعدة: (الإنسان لا يمكن أن ينسى الأمورَ التي تدعوه إلى اليقظة!) تساقطتْ أوراقها، وتهافتتْ فروعها في هذا الزمن الذي صارَ كلُّ شيء تنصبُ له الموازين، وتُقرع له الطبولُ، حتَّى الحصولُ عَلى ما يُذْهبُ الجَوْعة، ويطفِئ الغُلّة!

والمفكّرة في الغالب تجيبك على سؤالك: متى؟ ومع من؟ وأين؟ وأمّا: كيف؟ فجوابه وسائلُ أخرى يطول استقصاها!

وبعضُ الأذكياءِ يسْتعملُها بطريقةٍ عكسيةٍ ؛ ولكلٍّ وِجهةٌ هو موَلّيها! فالمهمّ! أنّها تؤدِّى غرض التّذكير سواءٌ بالفِعل أو بالتّرك، والأهمّ من ذلك كلِّه أنّها قدْ تصون ماءَ وجهِك مع غريمٍ لئيمٍ؛ فاسأل المجرّبين؟

وقدِ اتسعتْ رُقعةُ استعمالِ هذه المفكّرات لتشملَ طبقات الإنسانية جمعاءَ؛ وكلُّ ذلك راجعٌ إلى تعقّد متطلبات العيْش، وارتفاع تكاليفه حتّى صارَ الواحدُ لا يكتحلُ بنَوْمٍ إلا بعدَ أن يكون قدْ أنهى –على الأقلّ- أربعةَ مواعيدَ في يومه، وقيّدَ أخرى لغدِه! ولن تخطِئَ لو قلتَ بأنَّ المفكرةَ استحالتْ الصّديقَ الوفيّ في زمنٍ نَدَر وجودُه، وعزَّ طلَبُه إلا تلكمُ الصّداقةَ المطاطيّةَ التي لا تتكاثر إلّا في البيوتِ البلاستيكيةِ.

ولكنَّ السؤال: هل طرقَ سمعَك -يومًا- حديثٌ أو قرأتَ روايةً عنْ مفكرةٍ خائنةٍ؟!

لا تستعجلْ بالجواب قبلَ أن أقصَّ عليك هذه الحكايةَ كما كانتْ تفعلُ الجدّاتُ المعلِّماتُ قبلُ، قبلَ أن يدفِنَها أبناؤُها في دور العَجَزَة مكافئةً على إحسانها.

والقصّة -هذه- تعودُ بذِهنك، وترجِع بذاكرتك إلى أيامك الأولى؛ فلا يجمُلُ بِكَ –وأنتَ المثقف الطالب للعلم!- محوَ تِلكم الأيّام مِن ذاكرةِ التّاريخ ومذكّراته؛ فمتى استغنى الفردُ عنْ ساعةٍ مِنْ تاريخه؛ فإنّه لن يتهاون في التخلي عن تاريخِ الأمّة برُمّته! فها هي المرأةُ اليوم لمّا لم نحافظ عليها، ونحفَظْ لها تاريخَها المشرِق–بدعوى المساواة ومزاحمة الرجال- خسرتْ ماضيها، وضاعَ حاضرها. وبالمقابل ترى دول (الاستعمار) لا يتنازلون طرًّا عن تاريخهم الأسْودِ في غزْو الدول، وحرقِ الشّعوب، ومحوِ قيَمها وانتهاك أعراضها، واقتلاع جذورها؛ بَلْ يسمّونه -بكلِّ وقاحة- ثقافةً!!

(نعودُ إلى صفحاتِ تاريخِك الأولى...)

فالذِي يشدّ نظرَك، ويلفتُ انتباهَك في هذه المرحلةِ هُو ذلكمُ التواطُؤُ الفريدُ من الأساتذة جميعهم في بِدايات التّدريس؛ كأنّهم تخرّجُوا مِن مدرسةٍ واحدةٍ وعلى يد أستاذٍ واحدٍ، حيث اتَّفقُوا على البَدء بتَدْريس العقائد، وبعض الأحكام العملية التي يحتاجها المسلِمُ في اليوم والليلة والشّهر والسّنّة؛ كصفة الصلاة، والصوم، والطهارة، والزكاة، والحجّ وغير ذلك من الأحكام التي بها ينقذ الطالبُ نفسَه –أوّلًا-، ثمّ يساهم في إنقاذ أهله وجيرانه وأصدقائه وأُمَّته-ثانيًا-؛ فهذا هو الهدف الأسمى، والأمل المرتجى. فَلو عَلِمَ الأساتذة أن تلامذتهم لا يحفَلُون بإماطةِ الجهْلِ عنْ القريبِ والبعيدِ وَيتقاعَسُون في ذلك لما جالسوهم ساعةً، ولا كَلَّمُوهم لحظةً! ولكنْ! ليسَ للمعلّمِ أن يَسكُنَ قلوبَ طُلّابه، بَلْ يكْتفي بتسكينها، وتكْنيسها مِنَ العَوائِق والعوالق.

ولَك أن تسمّيَ هذه المرحلة بالمستوى (الأول) أوالمبتدئ، وإذا ما طبّقتَ قاعدة (ثقافة الاستعمار) أين يصبح المقلوبُ مقبولًا! فلا ترَى بأسًا أن تصفَه بـ(المتقدّم) إذْ كلاهما يصلُحُ أن يكونَ بدايةً لنهايةٍ أو نهايةً لبداية.

.....فما أجملَها مِنْ ساعاتٍ! وما أسعدها من لحظاتٍ!

يتسارعُ فيها الطلاب في حَملِ مجرد أحكام ، وتَفْريغِها في الأزِقة والأسْواقِ في صورة حكّامٍ، وهيئة علماءَ. ليس يحسِنُون سوى ترديدِ كلمتين خفيفتين –لفظًا- ثقيلتين –معنًى-: حَلال حرام! حرام حلام!! هكذا...! وكلّهم يخيّل إليه مِنْ جهلِهِ أنّه الخليفةُ عُمرُ، وأنّه حاملٌ دِرّتَه.

بلْ مِنهُم مَنْ يدير ظهره، ويصعّر خدّه لأستَاذه الذي كان سببًا في تغييرِ شَكْله، وإخراجِ لسانه؛ وهو موضوعُ قصّةٍ أخرى تقصّها عليك جدّتك في ليلةٍ أخرى!! فأحسِن إليها فإنّ (البركة مع الأكابر).

وفي تلك الأيام كنتُ أعرفُ صديقًا متميّزًا لقبُه (أبو طلب)، وهو ممّن تاجرَ بوقته وأهله وجيرانه كلِّهم في سبيلِ حَمْل الكتبِ وحِفْظها، لذلك تجدُه –دائما!- يكتب في الصّفحةِ الثانية أو الرَّابعةِ مِنْ أيِّ كتابٍ (حقوق الطبع محفوظة)، إلاّ أنّي كنتُ أستهجنُ بعضَ أفعالِه التي كادتْ أن تُذهبَ بلُبِّي لتصادمها مع مقصود الطلبِ، و تعارضِها مع آداب الطالبِ؛ فهُوَ على كَدّه في البحث، وجِدّه في الحفْظِ -بقطع النظر عن الحقائق- كانَ من المتأخّرين عن حضور الجُمع والجَماعات! فلَوْ أراد أحدُ معارِفه أن يكلّمه، أويحاوره في موضوع لا يحتمِل التَّأخير فما عليه سوى التوجّهِ إلى مسجدِه عندَ الركعة الثالثة، موعد قدومه! وأشبهَ فعلُه هذا ما اعتادَ عليه بعض مناطق المغرب العربي في التزام مثل هذه المواعيد، ولكنْ! في شُرب حليب العَصْر وقهوته! وهي عادة أُخذتْ من ثقافة (الاستعمار) فلا تستغرب.

ففي يومٍ من أيّام الطلب السعيدة والبعيدة أُذّن بالعَصْر، فتوجه أهْلُ الحيّ الطيبين كعادتهم إلى المسجد لإقامة هذَا الرّكنِ! وما إن بلغَ الإمامُ تكبيرة القيام إلى الرّكعة الثالثة حتَّى دخلَ صاحبُنا (أبو الطلب) -كعادته- مسبوقًا. فالأمر-عندهُ- استحال عادِيًّا و لا عتبَ عليه! فهو انتقل إلى مرحلة متقدّمة من مراحل الطّلب تسمّى مرحلة التحقيق! وهي مرحلةٌ يقوم فيها الطالب باقتناء ودراسة المطولات، ولوج عالم تحقيق المسائل والتأليف، فلا وقتَ -عندهُ- لتطبيقِ ما تعلّمه في مرحلة الابتداءِ.

(يتأخّر عن الصّلاةِ في المساجد... ولكنه طالب علم له مؤلّفات)...!

(ويتأخّر عن إغاثة الملهوفين... ولكنه طالبُ علمٌ له تحقيقات)...!

(ويتأخّر عن.... وعن.... وعن... ولكنّه طالبُ علمٌ له دراسات)؛ فما أجملَها(!) منْ أعذار، وما أسمجَها من أفعالٍ!

ولوْ أرادَ أحدُ زملائه مناقشتَه، ومحاورته لاحتجّ عليهِ بفعل بعضِ أساتذته –هكذا! مطلقًا دونَ أن يبحثَ عن العلل وينظرَ في الأسباب، فيدخلك في حيرة مِنْ أمرك: أيّهما تلوم؟!

أالطالب أم أستاذه؟!

فبعد أن أنهى صاحبُنا صلاتَه، وأتبعَ سلامَه بسجدَتيْ سهوٍ قلَّمَا يتركهما!- فـ (المسكينُ) غارق في مشاغلَ ومشاكل لها أول وليس لها آخر، لا سيما إذا عرَفتَ أن العشراتِ مِنْ دور النّشر جميعها في انتظار النّسخ النهائية مِن أعماله التي يخرجها في آن واحد! لا تسألوني كيف؟! وإنّما هذِه هي الحقيقة، فليس من المصلحة إخفاؤها –ولا حسد! -.

خرجَ مِنَ المسجدِ مُسرِعًا مُطأطئ الرّأس لا سلام ولا كلام! وليتني أدري! أهو سلوكٌ أخذه -أيضًا- مِنْ ثقافة (الاستعمار) أمْ هو سائرٌ على فتوَى التقَفها مِن هنا أو هناك تجوّز له ذلك! (ما شاء الله...! كمْ يحبُّ السيرَ خلْف العلماء!! قال أحدهم!!)

وفي طريقِ عودته لفتَ نظرَه على غير العادة ثلّةٌ مِنَ الشّباب مجتمعين على بعدِ أمتار من مسكنه، عرفوه ولكنّه تَنكر لهذِه المعرفةَ القديمةَ (فقد طال القميص وكبرت اللحية). فبعدَ أن ذكَّروه سألَ عن سبَب الجمع، وعلّة الاجتماع، فأخبرَهُ كبيرُهم بصوتٍ حزينٍ، وقلبٍ منكسرٍ أنَّهم فقدوا أخًا لهم؛ رَحلَ مِنْ هذه الدّنيا، ثمّ أنشؤُوا يعدِّدونَ محاسنه، ويحصون مناقبَه في موقفٍ أسال شؤون السّامعين.

وأما صديقنا (أبو طلب) فالكلام لم يكن جديدًا عليه ولاغريبًا عنه؛ فهذَا الأخُ الرّاحلُ كانَ صدِيقَه الوفيّ، ورفيقَه النّاصحَ، ولكنّه –كعادته!- فعلَ معه كما يفعلُ مع سائرِ عُشَرائه! ينكر لسانُه ما يعرفَ قلبُه ! (فلا تلوموه!! فهو طالب علمٍ قويٌّ.... له مؤلفات...!)

فما لبثَ أن أخرجَ مِنْ جيبِ قميصِه الأيسر مفكّرته المميّزة ليدخلَ -على مضض- موعدَ آخرِ أعمالِ الجنائزِ – وهو الدّفن- ضمنَ جدول أعماله الكبير، وكبارِ عملائه.

كيف له أن يُسرَّ بهذا الموعدِ؟ وهو موعدٌ محكوم عليه بالغَرابة والجهالةِ؛ إذْ لا تَرى في مفكّرتِه سوى:

تأليف...

تحقيق...

زيارة دار الطبع الفلانية...

زيارة دار المخطوطات الفلانية...

لذا! لا تتعجّب أنْ يتثاقل عن مواعيدِ الصّلاة إذْ هي ليستْ في ذَاكرته فضلًا عن أن تكونَ في مفكّرته، وعلى مثل ذلك فاسأل وقِس.

ثمّ استلَّ قلَمَه (الباركر) النّفيسَ من نفسِ الجيبِ، فهذَا الجيبُ الأيسرُ عادةً ما تُوضع فيه الأدوات التي تشير -ظاهرًا- بأنك طالبُ علمٍ، وترفع راياتِه:

سواك "المدينة" أو أيّ نوع من السّواك...

قَلم –ولا يهمّ النّوع!-...

و(مفكرة)، وبعضهم يزيدُ مصحفًا أو متْنا بحسبِ الرّغبةِ و النّشاطِ، و مدى اتساع الجيب -طبعًا-!. وهذا الأمر  يُذكّرني  بفكرةِ مشروعٍ لصديقٍ لي تتمثل في صِناعة (كاتالوجٍ) لمحبّي (الموضات) في الأوساط العلمية، لكنّه سرعان ما أعرضَ عنْ ذلك لأنّه لم يجِدْ مستثمرًا.

فلما هيّأ (أبو طلب) نفسَه لتقييدِ موعِدِ الدّفن -رفعًا للعتب كما يقولون- اربدَّ وجهه فجأة، وتصلّبتْ عروقُه، وتشنّجتْ أطرافه، ولمْ يطِق قلمُه كَتبَ حرفٍ واحدٍ، ليسَ مِنْ شدّة وَجْدِه من رحيل الصديق، ولا لتأثّره بفُقْدانِ الرفيقِ، ولكنْ حقيقةٌ أخرى نزلَتْ عليه كنزول الصّاعقة في اليوم العاصفِ هزّتْ كيانَه، وزَلزتْ أركانه.

فيا لَلمسكين...!

اكتشفَ أنَّ صَاحبَه -قبلَ الطّلبِ- قدْ مُرض، وماتَ، وغُسّل وكُفّن، ودُفن قبل ثلاثة أيّام.

فحتى في الجنائز يتأخر (أبو طلب) عنْ موعدِ القِراطِ الذي تبقَّى لَهُ مِنْ أخيه.

 

فلستُ أدري...!

متى يحذر معاشر الطلاّب والمثقفين مِنْ مثل هذه المفكّرات التي قد تخون –يومًا- إخوانَك وأصدقاءَك وجيرانَك... لا! بل أمّتك... لا! لا!! بل نفسَك التي بين جنبيك يوم أن تَفترشَ التّراب.

وهو موعدٌ خليقٌ بكل عبدٍ أن يدخله في مفكّرته –ولو معنويًا- حتى لا يقعَ فيما وقع فيه صاحبنا (أبو طلب) مع مفكّرته الخائِنة!

تعليقات