وقفة مع قوله تعالى (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون)

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سنته إلى يوم الدين أمّا بعد: فإن الكلام على الظلم والظالمين لم يغفله المصنّفون والمربّون على مر الأزمنة والعصور، وذلك لأن الظلم خلق ذميم تأباه النفوس المستقيمة، ولا تتقبله إلا الأنفس السّقيمة. فالظالم لا يستحيي من أن يتعدى -جهارًا- على غيره من بني جنسه بقوته التي لا يملكها المظلوم –في وقتٍ ما- فيسلبه حقوقه الطبيعية البشرية والشرعية.

والذي يتساءل عنه الكثير: لماذا تجد بعض الظالمين مستمرين في الظلم ومع ذلك يحيون حياة الرغد طوال حياتهم "الطويلة"؟ وهو سؤال مشروع أجاب عنه شرعنا الحنيف بجواب خالدٍ من رب العزة والجلال ليكون تسلية للمظلوم ووعيد لكل ظالم فاقدٍ للعقل والحياء والدِّين، ولكل ظالمٍ فاقدٍ لكلّ ما هو متصل بشيءٍ اسمه "إنسان"! يقول تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(1) .

فهذه الآية الكريمة جاءتْ عامّة لكلّ ظلم وظالم ومظلوم، مزيلة لتلكم التساؤلات، مُسلية لآهات المظلومين، قال القشيري: "هذا وعيد للظالمين وتسلية للمظلومين، فالمظلوم إذا تحقّق بأنه- سبحانه- عالم بما يلاقيه من البلاء هانت على قلبه مقاساته، وحق عليه تحمله"(2).

والتأخير هنا بمعنى الإمهال(3)، أيْ أنّ رب العزة عالم بما يقترف الظالم ولكن يمهله إلى يوم القيامة يوم تشخص فيه الأبصار؛  قال ابن كثير: "إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار أيْ: من شدة الأهوال يوم القيامة"(4). وقد فسّر السِّعدي طرقَ الإمهال التي تجعل الظالم يفقد بصيرته، ويتخلى عن إنسانيته، فيغرق في التعدي على الناس من كل جانب غافلا –أو متغَافِلًا- عما ينتظره لحظة تسليم روحه لرب العزة؛ فقال رحمه الله: "هذا وعيد شديد للظالمين، وتسلية للمظلومين، يقول تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) حيث أمهلهم وأدرَّ عليهم الأرزاق، وتركهم يتقلبون في البلاد آمنين مطمئنين"(5).

فالله سبحانه وتعالى:

يدر الأرزاق على الظالم...

ويتركه يتقلب في البلاد آمنا مطمئنا...بهيئة حسنة وطلعة بهية وعيش رغيد تخدع الأبصار ....

فلذلك ظن الكثير من الناس أنَّ تنعم الظالمين بتلك النّعم دليل عَلَى حسن حالهم وتوفيقهم؛ فهل هذا صحيح؟! يجيب العلّامة السعدي بتفصيل بديع: "...ليس في هذا ما يدل على حسن حالهم فإن الله يملي للظالم ويمهله ليزداد إثما، حتى إذا أخذه لم يفلته (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) والظلم -هاهنا- يشمل الظلم فيما بين العبد وربه وظلمه لعباد الله"(6).

فالله تعالى -إذًا- لم يمهل الظالمين حبًّا لهم ولا توفيقًا ولا رضًا بأفعالهم كما يظن البعض بل يمهلم لتمتلئ صحائفهم بالآثام التي مآلها الخزي والقهر والهوان والشقاء، قال ابن كثير في تفسير الآية: "أي لا تحسبنه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم، لا يعاقبهم على صنيعهم، بل هو يحصي ذلك ويعدّه عليهم عدّا"(7).

وقال أبو الفداء الخلوتي في نفس السياق -أيضًا- :"كلّ عمل يعمله الظالمون لم يكن الله غافلا عنه فى الأزل بل كل ذلك كان بقضائه وقدره وإرادته مبنيا على حكمته البالغة جعل سعادة أهل السعادة وشقاوة أهل الشقاوة مودعة فى أعمالهم، والأعمال مودعة فى أعمارهم ليبلغ كل واحد من الفرقتين على قدر أعمالهم الشرعية والطبيعية إلى منزل من منازل السعداء ومنزل من منازل الأشقياء يوم القيامة فلذا أخَّر الظالمين ليزدادوا إثما يبلغهم منازل الأشقياء"(8).

وههنا سؤال قد يدور في خلد البعض: فمع وجود هذه النصوص وكذا مشاهدة بعض نهايات الظالمين فلماذا -إذًا- يصر الظالم على ظلمه؟ فهل الظالم غير متيقن من موته يومًا مَا؟ وأنه محاسب على أعماله؟

وهذا له –في ظنّي- الجواب التالي:

أولا: لا شكّ أنّ الظالم يعلم أنه من جملة البشر، آخر دنياه موت وقبر وفناء.

ثانيًا: إنّ الظالم على علم أنّ هناك حياة أخرى بعد الموت وأنّ هناك دار جزاء.

ثالثا: إنّ الظالم المستمر في ظلمه بالرغم من علمه بما سبق بيانه فهو إمّا أن يكون: أعمى البصيرة غرته دنياه ومناصبه فلا يستيقظ إلا لحظة الموت وأنى له بعد ذلك! أو: واعيا بما يفعله وبما في كتاب الله ولكنّه يحارب من أجل عقيدة -هو- متبنيها ومنهجًا تشرّبه يجعله يرى ما يفعله صوابًا والإنكار عليه هو الخطأ؛ فلذلك تجد بعض الظالمين من أمثال هؤلاء قد يصل بهم الحدّ إلى درجة الاستهزاء بمن يذَكّره بالله مع أنه منزلق جدّ خطير، فالله تعالى يقول عن القرآن: "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا"(9) قال السعدي: "فالقرآن مشتمل على الشفاء والرحمة، وليس ذلك لكل أحد، وإنما ذلك للمؤمنين به، المصدقين بآياته العاملين به، وأما الظالمون بعدم التصديق به أو عدم العمل به، فلا تزيدهم آياته إلا خسارًا، إذ به تقوم عليهم الحجة"(10).

والخلاصة أن الظلم عواقبه وخيمة، وأن الظالم مهما بلغ من الطغيان فإن مآله الهوان، وأن المظلوم منصور ولو بعد حين... قَصُرت الأعمار أو طَالت!

والحمد لله رب العالمين.



([1]) سورة إبراهيم:الآية 42

([2]) لطائف الاشارات، 2/258.

([3]) تفسير السمعاني، 3/ 122.

([4]) ابن كثير، 4/ 442 .

([5]) تفسير السعدي، ص427.

([6]) تفسير السعدي، ص427.

([7]) ابن كثير، 4/ 442 .

([8]) روح البيان، 4/ 432.

([9]) سورة الإسراء: الآية 82.

([10]) تفسير السعدي، ص465.

تعليقات