رحلة الفن في عالم الخيال

 

كلنا كان يسمع - ولا يزال - أن أيَّ فنان حقيقي يمتلك خيالًا واسعًا، أو: مَن يملك خيالًا واسعًا فهو الفنان الحقيقي، ويحمل على هاتين المقدمتين أن الأطفال جميعهم فنانون حقيقيون؛ لامتلاكهم خيالات واسعة جدًّا لا حدود لها؛ لذلك إذا أردت أن تصبح فنانًا حقيقيًّا فما عليك إلا أن تكون طفلًا...

أظنك سترد عليَّ بهذا المنطق: الزمن لا يرجع إلى الوراء؛ فلن أعود طفلًا، إذًا مستحيل أن أصبح فنانًا!

فما المخرج من هذا المأزق؟

والجواب عن ذلك في هذا السؤال: هل جربتَ أن تستعين بالأطفال في حلِّ مشكلاتك؟!

اعرِضْ أفكارك عليهم، أو اجعلهم يعرضون أفكارهم عليك؛ فهم يملِكون المقومات الأساسية الكاملة لأي نجاحٍ مرجوٍّ: البراءة، وسلامة القصد، والعفوية، والحب، والجرأة، وعدم التصنُّع، وعدم التكلُّف، وقدرة الإقناع...

 

ولا أشك أنك ستعترض عليَّ - كما اعترض ذاك الصديق - بقولك: الناس اجتمعوا على قولهم: اسأل مجرِّبًا ولا تسأل طبيبًا! كيف تطلب مني أن أسأل طفلًا؟!

 

فإذا بلغ بك الاستغراب إلى هذا الحد، فلماذا تسألني - إذًا - عن "كيف تصبح فنانًا؟"؟!

فأنت قلت بأنك تريد أن تصبح فنانًا لا طبيبًا؛ لذلك أعطيتك هذه الوصفة، ولو كنت أعلم أنك تريد طبيبًا لأمددتك بما اعتاد عليه الناس: روضة، ابتدائي (أساسي)، إعدادي (متوسط/أساسي)، ثانوي علمي، توجيهي (بكالوريا) علمي، معدل من 100% فما فوق (!)، سبع سنوات في كلية الطب، شهادة جامعية، شهادة مزاولة مهنة، دفع رسوم، طبيب، تجديد الاشتراك، طبيب، تجديد الاشتراك، طبيب، فما أسهلها من نهاية! ولا أدري - بعدُ - هل ستكون طبيب اشتراكات أم طبيب مشكلات؟ فلا أحد يمكنه الجزم إلا بعدما تحلل نتائجك؛ فهي لا تظهر إلا بعد أول عشرين سنة من تجاربك على البشر، بحيث تعد على نفسك: معدل الوفَيَات التي تموت بالخطأ على يديك، أو إعطاء أدوية خاطئة، أو أخطاء طبية أدت إلى عاهات مستديمة، أو فَقْد وظائف عضوية!

 

فهل تريد الانتظار كل هذه المدة لتشاهد مثل هذه النتائج المرعبة أم تغير رأيك لأكمِلَ لك وصفة الفنانين؟!

شكرًا لك على اختيارك الفن يا صديقي؛ فهو الأسلم؛ فأنت لا تود أن تزيد صحائف سيئاتك بما يثقلها؛ فإنك إن فعلت ذلك فلن تجد من يدافع عنك يوم القيامة، سواء أطباء أو رؤساء أطباء؛ فليس الأمر هناك مثل حياتك هنا، تفعل ما تشاء ثم تبحث عن محامٍ ليخلصك من المآزق وشرور أعمالك، لتسمع الناس يقولون: (والله! محامي (فنان) شاطر! يطلعك مثل الشعرة من العجين)، بمعنى: احتَلْ وانهَبْ واظلم ولا تخشَ شيئًا طالما يوجد في الدنيا محامون (فنانون شاطرون)! فالأمر مختلف تمامًا عند رب العالمين؛ لذلك افعل ما شئت، واستعن بمن شئت من (الفنانين)؛ فالحقوق راجعةٌ إلى أصحابها!

 

نرجع إلى البحث عن الفن وكيف تكون فنانًا حقيقيًّا؛ كيلا تخدع بمزيدٍ مِن الصور الكاذبة التي تنتشر كل يومٍ، فمِن المفارقات - أيضًا - في هذا الزمان، التي قد تخدع بها: تسمية الملاكمة بالفن النبيل، يخرج الواحد منهم غارقًا في دمائه، فاقدًا لذاكرته، تائهًا في ذكرياته، ثم يسمونها فنًّا نبيلًا، أين تجد النبل هنا؟ فالحق أنك تدخل نبيلًا، وتخرج تعيسًا، ضاربًا أو مضروبًا! فكان الأليق أن يسموها: الفن التعيس!

 

وكذا المسرح يسمونه (أبو الفنون)! والسنيما (الفن السابع)، ولسنا ندري لماذا لم تكن الأول أو الثامن؟! وعلى جميع الأحوال والتفسيرات فهي و(المسرح) من الفن، وأصحابها فنانون، بل من أعظم الفنانين؛ فهم - مساكين! - يتعبون ليل نهار في توجيه الأجيال القادمة، وهذا الأمر في غاية الوضوح؛ فانظر ماذا فعل فنانو الأجيال الماضية بهذه الأجيال! (يعطيهم ألف "عافية")!

 

لذلك ينبغي لك أن تستمر معي في هذه الرحلة وإن كانت شاقةً لتبحث عن الفن الحقيقي لتصير فنانًا حقيقيًّا، يعيش الحقيقة ويموت من أجلها؛ فـ (لا يستطاع العلم براحة الجسد)، كما روى مسلمٌ النَّيسابوري، الذي صار كتابه وكتاب أستاذه - الفنان الأكبر - مائدةً دسمة للمشككين في كل ما هو مرتبط بالفن الحقيقي وأصحابه الحقيقيين.

 

وهنا في رحلة البحث نتوقف قليلًا لأسألك سؤالًا هامًّا: ما علاقة الفن بالبن؟ والجواب لا شيء، كنت أمزح فقط! فإليك السؤال الحقيقي: ما علاقة الفن بالسن؟! انتبه! فهذه كذلك مزحة، والمقصود ألا تسارع في البحث عن جواب لأي سؤال، فهذا يعارض منهج الفنانين الحقيقيين!

 

أذكر أني عملت سبر آراء لعيِّنة من المجتمع لمعرفة معنى الفن والفنان الحقيقي؛ فمنهم من ذكر الغناء، ومنهم الرسم، ومنهم التمثيل، ومنهم الذي يُضحك الناس، حتى من يدخل الحزن إلى القلوب فنانٌ عند البعض، ألم تسمع بفن التعذيب وفن القهر وفن التجويع؟! فكلٌّ أخبر حسب ميوله ورغباته ومعاناته!

 

وأجوبتُهم جميعها تفصح عن حقائق، ألا ترى - مثلًا - إلى بعض مذيعي الأخبار كيف ينقلون لك المآسي والأحزان وهم يبتسمون! (قتل 49 مدنيًّا، من بينهم 10 أطفال... شكرًا على حسن المتابعة هه هه هه)! فانظر إلى نفسك كم كنت حزينًا يتقطع قلبك ولا تكتحل بنوم، بينما المذيع يتقلب في أجواء أخرى غير التي وضعك فيها؟! أو بعضهم تراه يضع صورته بابتسامة عريضة - لا تتغير مع تغير الزمن! - أمام مقال إنساني محزنٍ جدًّا! فلا رابط بين الصورة والحقيقة!

 

وعند البعض الآخر الفن هو (الإتيكيت)، بمعنى أن تمسك السكين بيمينك وتأكل بشمالك، وتشرب بالشمال، وتترك بقايا الطعام والشراب، ولون الحزام على لون الحذاء، أعمالٌ لا تفتح عليك إلا أبواب الإسراف، فكان هذا السلوك ألصق بـ: التفنن في (الإسراف)!

 

ومع ظهور شبكات التباعد الاجتماعي والأخلاقي صار الفن عند البعض جمعَ أكبرِ عددٍ مِن الإعجاب، ولو كانت مبنيةً على مآسي وأحزان الآخرين! ولكن الشيء الفريد هنا - الجدير بالذكر - هو انقلاب المعادلة على أصحاب الشهرة؛ فقديمًا كان المعجبون هم مَن يركضون خلف المشهورين لأخذ - بكل مشقة! - (تواقيع) الإعجاب، بينما اليوم صار أصحاب الشهرة هم مَن يبحثون عن الإعجابات، ولو بـ: (كبسة زِر!)، ولو كان المعجب بهم يقضي حاجته! في سباقٍ نحو الصفحة الأكثر تأثيرًا!

أرأيت إلى هذه المفارقات؟!

آه، تذكرت...

إلا واحدًا من أولئك ذكر أمرًا مغايرًا عنهم قائلًا: الفن الحقيقي هو "الحب"! نعم! الحب فن!

مهلًا، ولا تتعجل...

 

وتجعل خيالك يسرح بعيدًا كما حدث مع خيالي، بحثت عنه فلم أعثر عليه إلا بعد أيام في ليلة باردة واقفًا مذهولًا لمنظر امرأة عليها آثار الشدة، وعلامات التعاسة، شاهدها تدفئ طفلها من قسوة البرد، ليس لديها ما تسكته، مِن ألم الجوع!

سألته: وماذا فعلت؟

قال: جبت المدينة كلها أبحث لها عما تسُدُّ به جوعتها وجوعة صبيها، فمررت على قصور وأحياء ومطاعم ومقاهٍ ومنتجعات وفنادق ويخوت وطائرات ومطارات وقطارات وسيارات، فقلت: لو أن هؤلاء البشر امتلكوا (فن الحب)، وتبرعوا بجزء بسيط مما يرمونه في القمامات، لمَا رأيت تلك المرأة المسكينة تتكفف في شوارع المدينة، فليس البرد - يا صاحبي! - مَن يقسو على الناس، بل الناس هم القساة؛ ينعمون بالدفء وينسَوْن إخوانهم؛ فهي تقاسمهم نفس المكان، ونفس الزمان، ونفس الانتماء، ولكنهم يتخلَّوْن عنها وعن طفلها، لماذا يفعلون بها ذلك؟ وأين يريدونها أن تذهب؟! وإذا ذهبت إلى حيث يريدون... يلومونها! وغيرها كثير...

أرأيت! فهو لم يقصِدِ اصطياد النساء، وإنما قصد كيف تجعل الناس يحبونك؟!

 

تركت خيالي وشأنه، وتوجهت إلى ذاك الذي أجاب بأن الفن هو الحب سائلًا إياه: أخبرني كيف؟

أجابني: تخيل نفسك طفلًا؟!

فخشيت أن أدخل في دائرة مفرغة، فسابقت الزمن قائلًا: أرجوك! لا تسخر مني فتتكلم عن المحامي الشاطر والفن النبيل والسنيما والمسرح وسبر الآراء كما فعل صاحب هذه المقالة؟!

ما قصة الطفولة في هذه الأيام؟! ماذا يحدث لها؟! لماذا الجميع يطالبك بأن تكون طفلًا؟! أفلا يكفي أن عالمنا يتذكر الطفل مرة في كل عام في "عيد الطفولة"؟! مثل: عيد الأم، وعيد الشجرة، ويوم البيئة، يقهرون الأطفال 364 أو 363 يومًا ويحترمونهم يومًا واحدًا!

 

فلماذا إذًا؟!

ألأننا لم نعش سوى 0.27 % من طفولتنا فأردنا أن نحييها الآن؟!

أم أننا كنا نظن أننا نعامل أطفالنا معاملة الكبار فأخرجناهم عن حقيقتهم إلى خيالنا؟!

فهل يعني ذلك أن أكثر هذه الأجيال خيالات؟! فكيف نريد - إذًا - صناعة الفن وفنانين حقيقيين؟!

كلُّ هذه الاستفسارات مرت في ذهني كلمح البصر مِن غير أن أجد لها جوابًا مقنعًا!

ومع إصراره على أن أتخيل نفسي طفلًا، واجتهادي في ذلك، لم أستطع لعب هذا الدور! فقال لي مشخصًا حالتي: إذًا، مهما حاولت - يا صديقي - فلن تصير فنانًا حقيقيًّا؟!

فما سر ذلك؟!

السر أنك إذا تخيلت نفسك طفلًا حقيقيًّا فسوف تحب الطفولة مِن أول صورةٍ لك، ثم تتعلق بها من النظرة الثانية، ثم تعيش صفاتها الجميلة من النظرة الثالثة، حياة البراءة والصدق والجرأة والحب والتواضع، فتحيَا حياة الكبار، لتصبح كبيرًا، وتصنع كبارًا!

 

وهنا عدتُ بذاكرتي أتأمل الجواب حينما اختُزِل في كلمة واحدة: الفن هو "الحب"! فتذكرت مقولة أحد الفنانين لم أكن أفهمها، وهي: "الفن مثل الحب، عمدتُه النظرة الأولى".

 

ولا تسألوني عن القائل، فلا أعرفه، ولعلي أسأل خيالي عندما أقابله ليقص عليَّ مزيدًا من الحقائق التي نراها خيالًا!



مقال كنت نشرتُه سابقا على موقع الألوكة:
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literature_language/0/112425/#ixzz7LAN7ZXjl

تعليقات