القرآن كتاب عبادة ومنهج حياة: فكيف نعمل به؟


ليس الغرض من هذه المقالة التعريف بالقرآن وبيان أهميته، فيكفي أنَّ المسلم عَلى علمٍ أنّ الله تعالى لم يخلق الخلق عبثًا، ولم ينزل كتابه إلا ليكون كتابَ علم وعبادة وهداية وحياة لا كتاب أدب وقصص وزينة. وأنّ الله تعالى قد تكفل بحفظه لفْظًا ومعنى؛ فاللفظ حفظه –تعالى- في الصدور إلى أن وصل إلينا مكتوبًا ويطبع بملايين النسخ، وكذلك تكفل –تعالى- بحفظ معناه، قال النبي صلى الله عليه وسلم (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ) مما يدل على استمرار هذه الطائفة بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله وفق مراد الله ومراد رسوله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ قال تعالى:(إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) قال السعدي :"في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله، واستودعه فيها ثم في قلوب أمته، وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص، ومعانيه من التبديل، فلا يحرف محرف معنى من معانيه إلا وقيض الله له من يبين الحق المبين".

فالله تعالى كما وعد بحفظ كتابه بألفاظه فقد وعد أيضًا بحفظه من تبديل المعاني مهما حاول أعداء الدين والمنافقين ومن سار على نهجهم من تبديل معانيه لتوافق أهواءهم ومصالحهم الشخصية. ففي زمن طغيان المادة والأهواء والأطماع الشخصية والبحث عن الثراء والشهرة والزعامة نعاين تنوعًا في المساس بهذا الكتاب في محاولاتٍ لتحويله مجرد رمز من رموز الدّين لا يتعدى أوراقه كأي رمزٍ مخترع؛ لإبعاد المسلمين عن حقيقة هذا الكتاب وما المطولب منهم أن يحققوه في واقعهم من عبودية مطلقة لله تعالى وذلك بالتمسك والعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفق مرادهما قال تعالى:(ألر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)، (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)، (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)، (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)، (وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)، (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلً)...

فلا ينبغي -إذًا- مِن كائن مَن كان –ولا سيما إن كان مسْلِمًا مؤمنًا- أن يحوّل كتاب الله تعالى إلى كتاب أدب أو طب أو تاريخ أو فلك أو إعجاز علمي أو مجرد مسابقات شهرة ومال وتذكير بأحزان الماضي والحاضر وما شابه ذلك فيقتصر تدريسه في المدراس والجامعات على أنه كذلك. وكمَا أنه لا ينبغي تطويع آيات القرآن وفق لغة العصر ومتطلباته بحجة أن الفتوى ولغتها تتغير بتغير الزمان. نَعَمْ! قد تتغير بعض الفتوى لكن ثوابت الفتوى لا تتغير لأنها مبنية على النصوص التي قد نزلت وقد فُهِمت فلا سبيل لتغييرها أو نسخ معانيها. وكي يتضح المقصود أذكر بعضًا من الأمثلة من واقعنا الذي نشاهده كيف يسعى بعض من جَانَبَه التوفيق لتبديل مفاهيم النصوص على غير مرادها؛ أذكر هذه الأمثلة من باب التوضيح فقط بقطع النظر عن نوايا مَنْ وقع فيها أو مَن يدعو إلى ذلك فالله حسيبهم وهو أعلم بذات الصدور:

1.     محاولات تبديل معنى قوله تعالى (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) على أنها دعوة إلى الأخوة والتسامح أو التقارب الديني، ودعوة إلى المحبة الإنسانية المطلقة بقطع النظر عن الدّين الإسلامي الذي من أجله قامت السماوات والأرض والجنة والنار، ولأجله خلقت الجن والإنس وأُرسلت الأنبياء والرسل؛ قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقال تعالى (إن الدين عند الله الإسلام)، تاركين أو متجاهلين تكملة الآية الكريمة وهي قوله تعالى (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم). فالتقوى المقصودة ههنا لا تتحقق إلا من مسلم مؤمن وهي حقيقة غير خافية. ومتجاهلين أيضًا قوله تعالى (إنما المؤمنون إخوة)، فعلّق تعالى الأخوة الحقّة والحصرية بالرابطة الإيمانية وهي الإسلامية، لا بمجرد كوننا بشرا من ولد آدم. فليس من شك أن الناس جميعهم قد يتعاونون فيما بينهم ويتبادلون الخبرات، فهذا إن وقع فإنما يقع من باب العادة والطبع البشري لاستمرار العيش والحياة، فهناك فرق شاسع بين التعاون والاستفادة من الخبرات لاستمرار العيش والحياة وبين التعاون لعبادة الله تعالى وحدَه وإقامة دينه ونصرة المؤمنين به وبرسوله كما أمر سبحانه وتعالى.

2.     ومن هذا الباب محاولات التفرقة بين (التولي) و(الموالاة) على أنّ إحداها للولاء القلبي والنصرة والأخرى عملي محض، لتوضعَ –نتيجة ذلك- جميع أنواع التعامل الحديث والمعاصر في المعنى الثاني، فتُفتح بذلك أبواب التعاون اللا محدود مع أعداء الدين من غير ضابط. وهي سابقة ليست معهودة عند جهابذة التفسير والعمل الأوائل. قال العثيمين -رحمه الله –وهو من علماء أهل هذا العصر-: (الموالاة معناها: المناصرة والمساعدة على أمورهم الكفرية، ومن ذلك أن يقاتل المسلمون مع الكفار؛ يعني: مثلاً يقوم الكفار بغزو بلد من البلدان الإسلامية، فيتولاهم هذا المسلم، وينصرهم، ويساعدهم على هذه البلدة في القتال، سواءً بالسلاح، أو بإمدادهم بأي شيء يساعدهم على قتال المسلمين، هذا من موالاتهم، وهو -أيضاً- من توليهم، فإن الموالاة والتولي يراد بها هنا المناصرة وأن يكون يداً معهم على المسلمين).

نعم! قد يحوز التعامل مع أهل الشرك من يهود ونصارى وغيرهم عند الحاجة إلى ذلك، لكن ضمن الضوابط الشرعية التي تحفظ عِزّة هذا الدين وأهله، وتكفل كرامتهم وحقوقهم بقطع النظر عن أماكنهم وجنسايتهم وأنسابهم ومناصبهم ومستوياتهم.

3.     محاولات تبديل معنى قوله تعالى (لا إكراه في الدين) على أن للمسلم حرية التدين، أو تغيير دينه والخروج من الإسلام متى شاء. وهذه أيضًا سابقة خطيرة لم تظهر إلا في عصر الدعوة إلى تقبل الشذوذ بجميع أنواعه طمعا في تصنيف عالمي أو مسابقة أو فعالية عالمية أو ما شابه ذلك.

4. وكما لا يجوز كذلك فصل الإسلام عن السياسة "بمعناها الحديث" فالدّين كله سياسة: قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، فهذا أمر عام؛ فلا يجوز التفريق بين سياسة وغيرها وفق اصطلاحات العصر الحديث؛ فالإسلام كله "سياسة"..قال تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، ومعنى "السياسة" الحكم والتنظيم وإصلاح شؤون الناس سواء كان ذلك داخليا أم خارجيا، اقتصاديا أم اجتماعيا أوغير ذلك...ففي الصحيحين  عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه قال: "كانت بنو إسرائيل تَسُوسُهُمُ الأنبياء كلما هلك نبي خَلَفَهُ نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون..." والشاهد قوله : "تسوسهم" فهي من: ساس يسوس سياسة كما جاء في معاجم اللغة الأصيلة.

والقصد أنّ كتاب الله تعالى أنزله تعالى على أنه كتاب عبادة ومنهج حياة وكتاب نجاة عملي؛ ومن وجهة نظري إليك بهذه الإرشادات للتعامل معه بطريقة أكثر فاعلية تفي مقصود هذه المقالة:

أوّلًا: ينبغي التعامل مع القرآن على أنه إطار حياة كلّي عَمَلي. وإليك بهذه الأمثلة عن أحكامه لتتمكن من طبع هذه الحقيقة بكل سهولة:

·       ففي في القرآن أوامر ونواه وإرشادات.

·       وفيه الكلام عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر والغيب والفطرة وعلامات الساعة وأهوال القيامة، وعن الموت ولقاء الله تعالى.

·       وفيه الكلام عن عظمة الخالق(من أسماء وصفات وعظم مخلوقاته وآياته ونعمه تعالى،..) وتوحيده...والتحذير من الشرك به ومن والمشركين والمنافقين وبيان صفات الجميع.

·       وفيه التحذير من إبليس جنوده من الإنس والجن، والتحذير من غروره بدءًا من قصته مع آدم وزوجه...

·       وفيه الأمر بموالاة المسلمين ونصرتهم والتزام الرابطة الإيمانية، ومعاداة الكافرين من يهود ونصارى وغيرهم، والتحذير منهم وبيان صفاتهم اللازمة، وعدم الركون إل الظالمين، وأمّا التعاون المعيشي فلا يكون إلا في حدودٍ يتحقق بوجوده البرّ والتقوى للمسلمين.

·       وفيه التحذير من الفتن وتحريف الدين بالكلمة والمعنى، وأيضًا التحذير من كتمان الحق.

·       وفيه الكلام عن أحوال الناس في الحياة الأخرى من مؤمن وكافر، وعن نعيم الجنة وعذاب جهنم مِنْ وعد ووعيد وبشارة ونذارة وجزاء، وبيان سبل النجاة.

·       وفيه الكلام عن العدل والصدق والصلاح والذِّكْر والدعاء وقراءة القرآن والإنصات له والعمل به، والإنفاق والصّدقات والاستغفار والمجادلة بالحق وغير ذلك من أعمال البر والتواصي بالحقّ والرّحمة والصبر...

·       وفيه الكلام عن الأحكام الفقية من فرائض وغيرها كالقبلة والوضوء والغسل والتيمم، والصلاة والحج والعمرة والزكاة والصوم والجهاد والنّفل والأسرى، وأحكام المواريث والطلاق والعدد والصداق والرضاع والنكاح والحيض والصُّلح والظهار والأيمان والقصاص والدّية والحدود، والبيوع والوصايا والصيد والتعامل مع أعداء الإسلام من يهود ونصارى وغيرهم، وغير ذلك...

·       وفيه الكلام عن وسائل الحفاظ على النفس والأسرة والمجتمع كغض البصر، والتوبة، والصبر، والعفو، والحجاب للمرأة، وحسن العشرة والقول، والوفاء بالعقود، وكتابة الدّين، وعن النّفقة والصدقات، والاهتمام بشؤون اليتامى والفقراء والمساكين والعاجزين، والتعاون على البر والتقوى، وبر الوالدين، وإقامة الحدود، ومحاربة الفساد والمفسدين والتحذير من الربا والقمار، والحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وإلى إقامة دينه والهجرة إليه...

·       ...ومن ذلك أيضا التحذير من كبائر المحرمات من ربا وخمر وقمار وزنا وتكبر وتفاخر وغير ذلك من الذنوب، وأيضًا التحذير من اللَّهو والغرور بالحياة الدنيا والحذر من خسران الآخرة.

·       وفيه الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله القرشي وحبه واتباع سنته وطاعته، وأنه ما أرسله الله تعالى إلا رحمة للعالمين -إنسهم وجنهم-، فمن ذلك قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)، (قلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، (ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)؛ وغير ذلك من الآيات الدالة على وجوب طاعة الله ورسوله ورد النزاع إلى الله ورسوله قال تعالى:(فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا).

·       وفيه تقريب المعاني بالأمثال، وأخذ العبر من قصص الأنبياء مع أقوامهم وغيرها من القصص.

إلى غير ذلك من المسائل من أوامر ونواه وأحكام وإرشادات شرحها علماء المسلمين على مدار الأزمنة والعصور إلى يومنا هذا...فهل بعد ذلك وبمعرفة كل أبواب هذه المسائل لايزال لدى المسلم أدنى شك على أن كتابَ الله تعالى "القرآن" هو كتابُ عبادة وعمل وحكم وسياسة النّاس إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها!

ثانيا: لا تَلم نفسك على عدم حفظ كتاب الله كله، وكما لا تجعل الحفظ أمنية أو هدف حياة كليّ، فينبغي -من باب الأولى- تغليب الحرص إلى جهة العمل به -كما فهمه الأولون- فعليه مدار التنزيل والثواب والعقاب.

ثالثا: لا ينبغي تحويل القرآن إلى مجرّد مادة مسابقات للحفظ وتحسين الصوت والزخرفة والشّهرة، أو أيضًا تحويله إلى مجرّد كتاب لغة وبلاغة وإعجاز علميّ فيغَطَّى الغرض الأصلي من النّزول. فكما أشرتُ سابقًا  فالقرآن الذي بين أيدينا هو كتاب عبادة وعمل ومنهج حياة ونجاة...

رابعا: ...وأنه تعالى أنزله على نبيه محمد بن عبد الله مهيمنا على سائر الكتب، وأنه تعالى أرسل خاتم الأنبياء والمرسلين محمدا صلى الله عليه وسلم إلى عامة الإنس والجن بقطع النظر عن مستوياتهم العلمية والثقافية والمجتمعية وغير ذلك..فالقدرة على العمل بالقرآن لا يُشترط لها القدرة على القراءة والكتابة، فكيف باشتراط الحفظ...

خامسًا: ...ثم إن صلاح العبد غير مرتبط بالحفظ ولا بجمال الصوت، وإنما بالإيمان والعمل بالكتاب على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والأمة بقدر الاستطاعة والمسؤولية والأرزاق التي قسمها -تعالى- بين الناس.

ثامنا: فلذلك ليس شرطا أن تحفظ القرآن لتعمل به، وليس مِن شرطِ صِحةّ العمل حفظُه، فلا ينبغي أن تضع على نفسك لوزام وشروطا غير نافعة، بل ربما قد تتحول مع مرور الزمن إلى عوائق للعمل بسبب الضغط النفسي الوهميِّ في حقيقته والسلبيِّ في آثاره.

تاسعا: حفظنا للقرآن سيكون له جانبان: الأول إجابي إذا عملنا به، والآخر سلبي إذا هجرنا العمل به مع وجود القدرة على العمل.

عاشرا: أنْ نَعمل بالقرآن ليس أن نقول "أنا اليوم سأعمل بسورة كذا ... وآية كذا..."وإنما هو نظام حياتي يسير معنا في كل لحظة في أنفسنا ومع غيرنا لإصلاح دنيانا وآخرتنا...

سادسا:  ...فأنت حينما تدور حول ما دار عليه القرآن والسّنة مِن أحكام وأوامر ونواه وإرشادات فهذا هو العمل بالكتاب"القرآن"...

سابعا:  ...فقد سُئلت أمُّنَا عائشة عن أخلاق نبينَا صلى الله عليه وسلم فقالتْ رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن".

أيْ قارن وصحح وسدد وقارب... فهذا النظام ترجع له في كل مرة تريد الاستزادة والتعلم لتُطَبّق وتعمل وتستَغِل ما أعطاك الله تعالى من وقتٍ وقوة ونِعَمٍ أحسن استغلال. وإنْ سَألت عن كيفية فهم القرآن وتفصيلات العمل به فليس لديّ أدنى شك أن المسلمين بمختلف مستوياتهم جميعهم "مجتمعين" قادرون على البحث والتعلم والفهم وإيصال العلم الشرعي إلى جميع الأماكن؛ ألا ترى حينما نزلت جائحة كورونا (كوفيد 19) كيف أن الجميع صار يعرفها ويعرف تفاصيلها ويتكلم عن الكثير من دقائق العلوم الطبية بطريقة علمية -صغارا وكبارا رجالا ونساءً-...أَوَليست هذه شهادة تقديرٍ "بامتياز" على قدرة المجتمع المتكاثف على التّعلم والتعليم والاهتمام بالتي هي أحسن للتي هي أقوم، بل أحيانا بالإلزام وقت الاضطرار.

حَدثَ هَذَا لإنقاذ النفس من الهلاك في الدنيا وهو أمر محمود وفي غاية الأهمية ويُشكر على ذلك الفاعل والممتثل، فكيف إذا مَا تعلق الشأن بأمر متعلق بالنجاة في الآخرة وهو أمر لا يقل أهمية بل هو الغاية من الخَلق، فبرأيك –أيها المسلم- أيهما أولى بمثل ذاك الاهتمام والحرص والتواصي بالحق والصبر والمرحمة؟!

...ففي نظري أنّ مثل هذه الجوائح باتت شهادة مطبوعة على جباه الناس على قدرتهم على التّعلم والفهم والامتثال، وأن إلقاء تلكم الحجج المثبطة والمبعدة عن العمل بالكتاب والسّنة باتت –كما يقال-على المحك، وأنَّ الوقت قد آن لمراجعتها ومراجعة أنفسنا وفهم أولوياتنا في التعامل مع ديننا الإسلام وأهله فهو سبيل نجاتنا وفلاحنا في الآخرة.

والله وحده الهادي إلى سواء السبيل.


تعليقات