مواجهة الرُّهاب (الفوبيا)- الحلقة الثانية: تقنيات "المواجهة النفسية"

 

مواجهة الرُّهاب (الفوبيا)- الحلقة الثانية: تقنيات "المواجهة النفسية"

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد؛ فهذا هو الجزء المتمّم لما نُشر في الجزء الأول من مواجهة "الفوبيا". فإذا لم تكن قرأتَ الجزء السّابق من هذا الموضوع فلا يزال الأمرُ واسعا ولم يُفتْكَ شيئًا البتة، فلا بأس أن تبدأ بالجزء الثاني ثم تعودَ لقراءة الجزء السابق لمزيد فائدة أو زيادة اطمئنان. وإنّي أذَكّر نفسي وإياك بأني وأنا أكتب في هذا الموضوع لستُ أخاطب إنسانا فقط إنما أخاطب إنسانا مسلما، لأن شخصية المسلم شخصية مميزة عن غيرها ولا سيما مرجع بعض قواعد التفكير الأساسية والمسلمات النفسية المبثوثة في الكتاب والسنة التي أهملها الطب النفسي الحديث، فلذلك عجز عن حل الكثير من الأمراض كما نشاهد ونقرأ. فلا ينبغي في معالجة النفس غض الطرف عن حقيقةٍ ومسلمةٍ أنّ الله تعالى هو خالق هذه النفس وهو الأعلم بها، وأن الدّين عنده تعالى هو الإسلام الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.

وربما تعتقد وأنت تقرأ هذَا الجزءَ أنّ المكتوب يبعد كلَّ البعد عن مسائل "الرّهاب"، ولكن -في ظني ومن واقع خبرتي- لمـا كانتْ مسائل الرّهَاب بجميع أنواعها خيالية ليست موجودة إلا في الذهن كان ينبغي لها أن تعالج بنظير ذلك، فلذلك صَبِّر نفسَك واقرأ المقالة إلى آخرها، وأمعن نظرك في كل نقطة تقرأها، وأنزلها على نفسك وقارن وحلل وناقش وكرر المناقشة، فتتمكن بإذن الله من فتح أبواب كانت مغلقة، بل لم تكن تتصور أنّها هي أساس علاجك أو ربما السبيل لذلك، ليس فقط في مسألة الرهاب وإنما حياتك كلها كـ "بشر" و "مسلم".

ولتسهيل القراءة والنظر قمت بتقسيم هذا الجزء إلى الفقرات التالية الرئيسة:

·       البحث عن الشخصية: فهي أولى درجات الاستقرار النفسي

·       نظرية الفرص المتاحة من تمام الاستقرار

·       العلم والرقية لا ينفصلان

·       معوقات نفسية ومعتقدات وقواعد

وقد ارتأيت أن تكون المقالة على شكل نقاطٍ للحفاظ على التركيز وتيسير النقاش مع نفسك وغيرك ولـِمَ لا مناقشة الكاتب.

أولا: البحث عن الشخصية

1.   إنّ النفس البشرية نفس شبه "طفولية" مَيّالة للشهوات والكسل واللعب واللهو...فقد تضر نفسها بنفسها من حيث لا تدري؛ لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من ذلك ويعلم أصحابه وسيأتي تفصيل ذلك.

2.   وهذا الإنسان "الطفل" لم يولد صفحة بيضاء كما يقال، أو كما أرادوا أن يعلموننا ذلك، بل ولد على الفطرة التي يفسدها الوسط والتربية غير السليمة. قال ابن القيم في "حادي الأرواح": "والله سبحانه خلق عباده حنفاء؛ وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلو خلوا وفَطِرهم لما نَشؤوا إلا على التوحيد".

فما هي الفطرة؟

فطرة الإنسان فطرة بشرية طبيعية وإيمانية؛ قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه)، قال السعدي في تفسيره: "فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع الله في قلوب الخلق كلهم، الميل إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة. ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"..

وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا).

3.   فالفطرة -إذًا-: صفاء الدهن، والإيمان بالله، والتوحيد، والاعتدال، والشجاعة، والكرم، والصدق، والثقة، وحب الحق والبرّ، واليقظة، والإصرار، والتحمل، والخوف من الله والتوكل عليه، وحب السّتر، ولقاء الناس والاجتماع، والموت والفناء والبعث، والأخلاق الفاضلة...فهذه كلها من الفطرة التي ينبغي أن تدور حولها تفكيرنا وجوارحنا؛ فالله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم على الفطرة السليمة، ثم أفسدها من أفسدها بالشرك أو الجبن أو الكسل أو البخل أو الهمّ...؛ فانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا).

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من كل ما يكدر الفطرة السليمة، وعواقب الانحراف؛ ففي حديث أنس كان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والبُخْلِ والجُبْنِ، وضَلَعِ الدَّيْنِ، وغَلَبَةِ الرِّجالِ)، وفي رواية سعد بن أبي وقاص قال: (كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ، كما تُعَلَّمُ الكِتَابَةُ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ البُخْلِ، وأَعُوذُ بكَ مِنَ الجُبْنِ، وأَعُوذُ بكَ مِن أنْ نُرَدَّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ، وأَعُوذُ بكَ مِن فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وعَذَابِ القَبْرِ)،  وهكذا نصح صلى الله عليه وسلم الرّجلَ لما سأله "أوصني" قال: "لا تغضب" فكرر مرارا قال: "لا تغضب".

فإذا كنت -مثلا- متلبسا بوسوسة الموت والخوف من "المجهول(!)"؛ فرد نفسك إلى فطرتها وتذكر قوله تعالى (قل لن يصيبنا لا ما كتب الله لنا). وإن كنت تخاف من مستقبل أولادك أو من تعول وألـمّ بك التّفكير المرهق حتى أصابك الهمّ فُرُدَّ نفسك إلى فطرتها وتذكر قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليه ولا هم يحزنون)؛ وقوله: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا)..

بمعنى حَوّلْ مسألةَ "الرّدِّ إلى الفطرة" إلى عادةٍ وذلك بالبدء بتصفية الذهن ثم مواجهة الأمر بكل تجرد وعقلانية لتتمكن من استغلال الفرص المتاحة لك أحسن استغلال كما أرادك الله تعالى أن تكون. وسيأتي تفصيل كل ذلك والكلام عن مسألة الموت والخوف من المجهول.

4.   والأمر أبعد من ذلك أيضًا، فحتى القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -ولو بالقلب- من الإيمان والاطمئنان والاستقرار النفسي وسلامة الفطرة فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو بالقلب من وسائل التوزان النفسي؛ فمن فطرة المسلم مَثَلًا أن:

§       ينفر من المحرمات والشذوذ الجنسي والذي هو "قلبُ" الفطرة وإهلاك النفس وتحطيم الشخصية وإن سموها  homophobia لإدخال الرعب في النفس المطمئنة لتتم المعالجة -لديهم-ظنا منهم -بقبول هذه الفظاعة وتقبلها، ولكن هيهات هيهات فالتسمية -كوننا مسلمين- لا تغير من الحقائق شيئا، فلا ينبغي أن تؤثر على نفسية المسلم الثابت وإن فَرضها من فرضها من سفهاء الخلق الفاشلين. وهذه من أقوى الإثباثات على عجزَ الطّبّ النفسي الحديث الغربي عن حلّ الكثير من أسبابه شأنه شأن العديد من الأمراض النفسية لتجاهلهم الكثير من المسلمات الفطرية والإيمانية منها. فلم يكن لدى حكوماتهم ومؤسساتهم سوى التسليم، والبعض منهم قبله على مضض. فراحوا يعتبرون الشذوذ الجنسي جزءًا من شخصية الإنسان (ليس من فطرته) وجزءًا من حريته جاعلين "الحرية" هي العلاج وهو في الحقيقة هروب من العلاج!!! هربوا من التناقض مع دساتيرهم فوقعوا فيما هو أشد تناقضًا، ثم راحوا يطالبون الناس -بالقوة- أفرادا ومؤسسات وشركات وحكومات أن تمشي وفق ذلك. ولكننا نحن -المسلمين- على يقين بصحة قول نبينا صلى الله عليه وسلم:( لكل داء دواء)، ولا سيما إذا كان الشذوذ ناتجا عن أمور خارجة عن نطاق العبد في وقت معين، ووُجدت النية للتصحيح. (وأما الاضطراب الجنسي الخَلْقي فموضوعه خارج عن إطار هذه المقالة لأنه طبي عُضْوي محض.).

§       ومِن فطرة المسلم السليمة أيضًا أن يتألم حينما يرى ما يشوش نفسية المسلم ويضْعف شخصيتها، ويدخلها في دوامة الشك والاضطراب ثم الهمّ فالخوف الوهمي. فمما يتألم له المسلم بفطرته السلمية المتعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

· رؤية المسلمين منقسمين ومتنازعين ومتناحرين على الدوام حتى على لعبة كرة القدم، مع أنّ دينهم واحد ونبيهم واحد وهدفهم واحد، وهذا الأهم "هدفهم واحد". فيتجهون إلى المجتمعات الغربية بحثا عن الراحة النفسية والاطمئنان وإذ بهم يقعون في مسائل أعظم خطرًا.

·  ورؤيتهم غارقين في حبّ الكرة والغناء والتمثيل والشهرة والمال والمناصب العالية والحياة الراقية وألعاب القمار، والافتخار على غيرهم بالجنسيات والأنساب... فهذا كله عند ضياع الأولويات والأخلاق يعدّ حب أوهام ومتابعة سراب -ولا سيما عند جعل بعض تلك الأمور ككرة القدم من الإيمان، والشّرف وعليها يحدد مصير العبد بأكمله- مما يُدخل النفس في صراع وهمي مع الهوية والشخصية والمثالية، بل -كذلك- يدخله في شكّ في إيمانه ودينه...

· ورؤيتهم غارقين في الميول إلى الثقافات القادمة من المجتمعات التي تَكِنّ العداء للإسلام وتقليدهم في كل شيء مهما كانت آثاره على المجتمع المسلم وقيمه وأخلاقه،  دع عنك حينما يرى احترامهم لهم أكثر من المسلم في الكثير من الحالات. فهذا أيضًا مما يساهم في التأثير النّفسي السّلبي على المسلم مما قد يبعده عن فطرته واتزانه النفسي.

· ورؤيتهم غارقين في فوضى وهوى التحليل والتحريم وتغيير المفاهيم من غير ذوي الأهلية، غيْرَ مقدّرين لعواقب تحمّل المسؤوليات التي يتحمّلونها، الذي يؤثر على نفسيات العديد من الأفراد والمجتمعات المسلمة بسبب الارتباك الذي يحدث جراء التحليل والتحريم الفوضي.

· ورؤيتهم ينخرطون في خدعة (diversity and inclusivity) التي وسع الغرب دائرتها ففرضوا ما يضاد ثوابت دين المسلم، وألزموا الدول بذلك  -بما في ذلك الشركات العالمية- كي يرتقوا في سلم التصنيفات والفوز بالمساعدات وتنظيم المسابقات والفعاليات العالمية. فحتى المسلم الذي غيّر جنسيته إلى جنسية الغرب أُلزِم على قبول هذا الأمر، وغيرها من المحرمات وإلّا انتُزعت منه الجنسية ومنهم الأفضلية، فوضعوا إيمان المسلمين على المحك! مما يؤثر على الاستقرار النفسي والإيماني للعبد.

· ورؤية الأقليات المسلمة المستضعفة في العديد من الأماكن الذين يستغيتون ليل نهار...فالشعور بهم من الفطرة، قال تعالى:(إنما المؤمنون إخوة)، ويقول النبيّ صلى الله عليه سلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)...

...والأمثلة كثيرة جدًّا.

والمقصود أن مزاحمة المسلم في فطرته، ومحاولة قلبها من الأمور التي تحمل له مخاطر نفسية في الدنيا، وعواقب وخيمة لحياته الأخروية، فمن أين سيأتي الاطمئنان بعد ذلك؟ وكيف سينجح علاج نفسي معزول عن وسطه المناسب للتفاعل وهو الفطرة؟!

5.   ...فلذلك كلِّه اعرف نفسك وقدِّرها، وعوِّدها على الرجوع إلى فطرتها السليمة الجميلة بالقلب والتفكير والجوارح، التي هي من صنع الله تعالى الرحيم العليم الخبير، فستبدأ تدريجيا بالشعور بالفرق والاطمئنان النفسي، بل فستنتبه إلى أمور أخرى في غاية الأهمية لم تكن لتخطر على بالك لولا تصفية ذهنك، لذا فاحرص دومًا على صفائه.

 

ثانيا: نظرية الفرص المتاحة

6.   كما أشرتُ سابقا بأنَّ الله تعالى خلق الإنسان على الفطرة السليمة، وأعطاه ما يمكن له ولسائر البشر من استمرار حياتهم، وتحقيق العبودية له وحده تعالى مِن إرسال الرسل وإنزال الكتب والذي خُتم بنبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم...

7.   ولـما كانت هذه الدنيا دار امتحان وابتلاء باتّفاق البشر والمسلمين -وهو من صلب عقيدة المسلم- قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، جعلَ تعالى بحِكْمته البشرَ فقراء وأغنياء، حاكما ومحكوما، مرضى وأصحاء، ضعفاء وأقوياء، عربا وعجما...

8.   ثم رتب الجزاء والعقاب عل أعمال العبد بحسب ما أعطاه الله تعالى من إمكانيات عقلية وجسمية ومادية. بمعنى أن الله تعالى يعطي العبد إمكانيات ليستعملها مع نفسه وغيره لتحقيق التوحيد والعبادة والعدل والتوزان على مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهي التي أسميها بــ "الفرص".

9.   فهذه الإمكانيات "الفرص" مِن مادية وعلمية (مثل: المال، والعقل، والوقت، والجوارح، والقوة، والصحة، والمنصب، والخدم، والجنسية، والنسب، والأبوة، والأمومة،...) التي أتيحت للعبد لاستعمالها فيما يرضي الله تعالى، هي كلها "فرص" ستكون إمّا فرصا محققة نافعة للعبد أم ضائعةً مهلكة له. فهكذا ينبغي تربية النفس والتفكير حتى نتجنب إدخالها في دوامة الهم والحزن، مما يسمح بالخوف من إحاطة هذه النفس من كل جانب، فانظر ماذا قال إبليس لربنا: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)...

10.                      لذا ومَع معرفتنا بهذه المسلمات -كوننا مسلمين- فلا تنزعج بعد ذلك ولا يصيبك الهم والغم إن وجدتَ نفسك بدون الفرص التي أتيحت لغيرك، أو رأيت مَن أتيحت لهم تلكم الفرص لم يَعمل بها ليُتِيحوا لك فرصك التي من المفروض أن تأتي منهم، فالله تعالى هو القائل: (رفع بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضكم بعضا سخريا). فلا تهتم ولا تغتم ولا تحاول أن تعيش بخيالك في فرص غيرك، بل عش فقط مع فرصك واستغلها أحسن استغلال، فإن ميزان الجزاء والعقاب والاطمئنان المطلق قائم على ذلك.

11.                      وكما لا تنتظر من المجتمع أن يعطيك الشخصية بحسب رغباتهم وفرصهم، لأنك أنت من تملك شخصيتك بحسب الفرص المتاحة لديك، فليس المال ولا الشهرة ولا المناصب مَنْ تحدّد حقيقة شخصية الإنسان، فهذه الأمور كلّها فرص متاحة إذا لم يستغلها الإنسان فيما أمره الله تعالى فإنها تعد فرصا ضائعةً وستنقلب على صاحبها؛ قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ)، وقال تعالى حكاية عن الظالمين لما طلبوا منه تعالى الرجوع لاستغلال تلك الفرص الضائعة:(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وغير ذلك من الشواهد.

12.                      وبِعِلْمِنا بكل ما سبق فإنَّ الأصل في المسلم أن يكون داعية إلى الله تعالى لأننا أمة دعوة نحمل رسالة عالمية جاءت لمعالجة النفس البشرية وحمايتها من إفساد فطرتها. فلذلك أشرت سابقا إلى أن علم النفس الحديث لا يمكنه فصل النفس البشرية عن دين المسلم لأنه دين فطري. فالفَرد المسلم -إذًا- داعية بحسب الفرص المتاحة له، فالله تعالى أرسل نبيه محمد بن عبد الله لتبليغ دينه لعامّة الناس وليس للعلماء فقط، فالكل داعية في مكانه وبحسب الفرص المتاحة له. بمعنى :كلّ بحسب قدرته العلمية والمالية والإدارية والمجتمعية والمحلية والخارجية وغير ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم (كلّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ عليهم وهو مسؤولٌ عنهم والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عنهم والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلها وولدِهِ وهي مسؤولةٌ عنهم وعبدُ الرجلِ راعٍ على بيتِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ)...

 

ثالثا: العلم والرقية

إن مسألة الرقية مِن تأثيراتِ المس أو السحر أو العين أو الهمّ أو غير ذلك مما لا ينبغي أن يَشُكّ فيه مسلم، وكما أنه أمر لا ينبغي إهماله في الطّب النفسي الذي نراه لا يعتمد إلا على الأمور العقلية بقطع النظر عن إيمانيات الفرد وعقائده. فمثل هذا الفصل المرعب ربما قد يسهل تسويقه وبيعه لغير المسلم، وأمّا مع المسلم فالأمر جد مختلف لأنَّ دينه "الإسلام" هو الحق الذي لا ريب فيه، وهو الفطرة التي ولد بها وهو أساس تحقيق العدل والاستقامة والتوزان النفسي، فلا يحسن بل لا يجوز إهمال هذا الأمر وتجريد المسلم منه.

ففي نظري أنّ لِكل علمٍ مراجعه وقواعده المستندة على مسلّمات إمّا عقلية أو شرعية (إيمانية عقائدية وعملية)، وأنّ الطّب النفسي ليس علما تجريبيا محضًا حتى يُربط بأكمله بالعقل البشري بل فيه أيضًا ما هو متعلق بمعرفة حقيقة هذه النفس البشرية وكينونتها، وهذا مما ليس للعقل فيه دخل. فانظر إن شئت إلى نجاح الطب العضوي البشري لما كان تعلقه بالنظر المحض والتجارب، ولك أن تقارن بينه وبين الطب النفسي مع أنّ كلاهما متعلق بالبشر... فكوننا مسلمين نعبد الله تعالى الذي خلق هذه النفس، ينبغي التعامل مع تغيرات وتحولات هذه النفس البشرية ابتداء من معرفة الثوابت والمسلمات المذكورة في القرآن والسنة، ثم بناء القواعد العلمية وفق ذلك حتى نضمن سلامة الفطرة متى تعلق الأمر بذلك. وسِوَى ذلك فإنَّ البشر يعبثون بهذه النفس على الطريقة التجريبية المحضة وهذا مما لا ينبغي فعله مِنْ مُسلم مع مُسلم.

فمن المسلَّمات التي يؤمن بها المسلم الواجب استصحابها:

§       أن الله تعالى خالقه

§       وأنه خُلق للعبادة ولم يخلقه عبثًا قال تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون..) وقال تعالى (وما خلقت الجين والإنس ليعبدون). ومن  هنا تأتي قيمة العبد وأهميته ليس كما يراها المجتمع وأصحاب التأثير السلبي على الناس، حتى حادوا عن الهدف الحقيقي والغاية الحقيقية من الوجود والخلق والبعث وما بعد ذلك.

§       وأنه خُلِقَ على فطرة الإسلام.

§       وأن أسرار الروح وطبيعة النفس البشرية لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى...

§       ...وبالتالي لا ينبغي معاملتها معاملة الماديات التي ترى بالعين المجردة والميكروسكوبات والأجهزة الصوتية وغيرها.

§       ويؤمن أن القرآن كلام الله تعالى...

§       ...وأن الله تعالى قال: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا).

§       وأن المس والسحر والعين حقيقة لا غبار عليها...

§       وأن النبي صلى الله عليه وسلم عالجه جبريلُ بالقرآن من سحرٍ ألـمّ به صلى الله عليه وسلم.

§       والصحابة كذلك فعلوا ذلك بالفاتحة وغيرها

§       وأن الأعمال الصالحة قد تكون سببا في ذهاب الهموم وجلاء الكربات...

§       وأن تقدمَ الإنسان في العمر وابيضاض الشعر وظهور علامات الشيب وتغير الملامح أمرٌ فطري، فالأسلم أن تترك الشيب وشأنه وتكبر مطمئنا طالما الأمر لا مفر منه...

§       ...وأن الموت نهاية المخلوق، وأنّ قبر العبدِ إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، ليس كما هي المعتقدات الفاسدة الذي ينشرها من ينشرها (كالأرواح الشريرة، والزمبي والخوف من الميت والمقابر، وغير ذلك....)..

...فبِعِلْمِنا أن الإنسان مولود على الفطرة من قبل ولادته، وبِعِلْمنا أن الإنسان قد يعتريه تأثيرات خارجية غير ملموسة (كالسحر والمس والعين) وجب عَدَم إهمال هذه القواعد في الرحلة العلاجية إن كان مصدر التأثير النفسي أحدها؛ لذا  وجب رد الّنفس إلى طبيعتها وهي "الفطرة" وردّ الشخصية إلى طبيعتها التي هي "الفطرة"...

11.ولكنْ...لا ينبغي بالمقابل اتخاذ الرقية ذريعة لكل ألـم ومرض يصيب شخصية ونفسية المسلم، لدرجة أن البعض جعلها وسيلة يتلاعب بها بالنفوس الضعيفة والـمُحِبّة للدّين. يفعل بعضهم ذلك إمّا من أجل الشهرة أو المال وبعضهم –بلا شك- عن حسن ظنٍ والآخر يتطوع مشكورًا لإفادة أخيه. والمقصود أنّ بعض التأثيرات قد لا تكون ذات علاقة بالمس، فحتى إن وُجدَ فقد تكون بعض الآثار ظهرت من أثر صدمات أخرى مخيفة أثناء الطفولة والشباب. ومع مرور الزّمن وتكرار الحوادث ولا حكيم يساعد في الوقت المناسب أدّتْ بالمصاب إلى اختلال الشخصية وضعف السيطرة على النفس. فقد لا تنفع الرّقية بهذه الطريقة المباشرة لأنّ محل الرقية "الجسد /النفس" غير مستعد لذلك...

12...فلذلك لا ينبغي للرقاة إرهاق النّاس باستعمال الأرقام والأعداد الكبيرة والجلسات المرهقة  والمخيفة؛ بالضرب المبرح والكهرباء، وكإلزام المريض قراءة 100 مرة سورة كذا، و60 مرة سورة كذا، أو إعطاء كل سورة أو "رقية" اسم معين كرقية المرض الفلاني والعِلاني لتزداد المعاناة، ويزداد مع ذلك البعدُ عن العلاج؛ فهذا كله في ظني "حرام" لأن المسائل المتعلقة بالشرع وتعداد الأذكار والتعامل مع النفس واكتشاف حقيقتها توقيفية. بمعنى يلزم الراقي –مثلا- الدّليل بنص الكتاب والسّنة على هذا التحديد والتصنيف في العلاج. قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)؛ فهذا جواب ربنا العلّام فعَلَام يخترع المخترعون كل هذه الأعداد والتكرارات والأنواع من جيوبهم؟

13.ثم إنّ النبي صلى الله عليه وسلم عولج بالمعوذتين فقط، وبعضهم بفاتحة الكتاب، فانظر ما أسهلها من رقى! حينما تكون النفس مستعدة لذلك...

14.وفي العلاج هناك حقيقةٌ (سبب) وتأثير، فإذا قَاومت التأثير أو السلوك الطارئ فستظهر الحقيقة ويظهر معها سلوكك الطبيعي، فلا تخشى ولا تضطرب من ذلك...وهذا حاصل في جميع السلوكيات غير الطبيعة وإن كانت متعلقة بالشذوذ. وهي قاعدة استعملها علماؤنا قاعدة "التخلية قبل التحيلة" أو "التصفية قبل التربية"...فإذا قاومت السلوك والأحاسيس الطارئة والداخلة على طبيعتك وتبدأ تدريجًا هذه التأثيرات في الاختفاء  فستظهر سلوكياتك الطبيعية والبشرية والفطرية...

15...فقد كان الصالحون يقولون (التخلية قبل التحلية) بمعنى فرغ نفسك من المعوقات ثم املأها بما يصلحها، فإنها ستتقبل ذلك بكل يسر واطمئنان وثبات، فكلما أزلت المعوقات صفى لك الذهن وعادت النفس إلى فطرتها السليمة.

16.والمقصود أن تجعل المحل مستعدًّا للعلاج والرقية؛ كأن يبدأ الأمر من داخلك ليستقر العلاج وتزدهر النتائج، ولا تعتمد على أمور خارجية خارج فطرتك فترتبط بها فترة مؤقتة ثم تختفي فيعاودك الهمّ والألـم؛ كقول البعض: ابتسم تبتسم لك الحياة، اضحك تضحك لك الحياة، كن كذا...كم كذا...وكن إيجابيا وافعل كذا وكذا وغير ذلك من الأمور التجريبية -التي بعضها سخيف- مآلها ملل وزيادة هم وغم لأنها ليست نابعة من داخلية الفرد ولا تخدمه بل تخدم الأطراف الخارجية، فهم الذين أرادوا منك أن تكون كذلك لست أنت...

17....بمعنى اكشِفْ عن نفسك أوّلًا واكتشفها، واحرص على صفاء ذهنك واعرف شخصيتك وصحح تفكيرك لتميز ما بك من أسقام نفسية؛ أي حاول ارجاعها إلى فطرتها قدر المستطاع. فإذا صعب عليك الأمر في البداية، افصل تفكيرك عن كل شيء واسأل نفسك، وتساءل، ولم لا تتخيل نفسك مع نفسك كيف كنت قديمًا طفلا أو شابًّا سليم الفطرة؟ ومِن هناك ابدأ واعرف من أنت؟ وماذا حدث؟! ولا ضَير أن تذهبَ إلى من يحلل لك شخصيتك ونفسيتك فيساعدك على إزالة تلك الشوائب لتكتشف الأسباب و تتبلور لك الحقائق، ويساعدك على التعود على عملية تفريغ الذهن وصفائه مع كل حادث وحديث وتصرف لأنك في مراحل العلاج...

18....فستبدأ تدريجيا بملاحظة الفارق ومصادر العوالق والعوائق الرئيسية لما أنت فيه من أمراض نفسية. فإذا وصلت إلى الحقيقة وبدأت بإرجاع نفسك إلى فطرتها فساعتئذ سترى آثار الرقى والأذكار الزمانية والمكانية وقراءة القرآن فإنها هي أيضا من الفطرة. فأنت الآن تجمع بين أمرين: الأول:  تصحيح طريقة تفكيرك لتعود إلى فطرتك، والثاني: المقاومة والثبات بالأذكار والقرآن وأعمال البر، بمعنى تعيش مسلما مؤمنا تدور مع فطرتك. فلاحظ ماذا فعلتَ الآن: تستعمل الفطرة لتعود إليها؟ أي أن علاجك كان داخليا من تفكيرك حينما صار صافيا، ثم انعكس على صورتك ومن حولك خارجيا...

19.كلّما كانت علاج الأمور النفسية مِن دَاخلك(1) ومن واقع تفكيرك بداية صار التغير أسرع وأثبت، فكأنك اعتمدتَ على نفسك في تغيير نفسك، مما يزيد الأمر ثقة وقوة وثباتا، وقد قيل: "...الضّعيف هو الذي يعرف معنى القوة وكيف يستخدمها في محلها وأما القوي فلا يعرفها إلا حينما تسلب منه..."...بينما الاعتماد على الأمور الخارجية "المكتسبة" في تغيير النفسية فإنها لن تنفع، وإذا نَفعت فلفترة قصيرة ثم تعاودك الأسقام بدرجة أقوى، لظنك أنك قد فشلت في العلاج ولا يوجد ما هو نافع لك. ألا ترى كيف أنّ اللغة مكتسبة نتعلمها من الوسط الخارجي، وانظر كذلك كيف يمكن تغييرها في أي لحظة من لحظات العمر...؟ بينما الأمور الفطرية فأصلها مع الإنسان منذ ولادته فمن السّهل علينا العودة إليها والعيش معها، وتصفية الذهن والتفكير مِنْ عوائق النظر والتحليل من الفطرة أيضًا..

20...وأكرر هنا -من باب التأكيد- أنّ العيش مع الأذكار وقراءة القرآن كلها شفاء وحماية واطمئنان؛ وهذا أيضًا من الفطرة لأن العيش مع الله والإيمان به من الفطرة  التي خُلق الإنسان عليها.

21. إنّ المعرفة (والعلم) تساعدك على حسن التوكل والعلاج، فلذلك اعرف حقائق ما تعاني منه وعالج ولا تعتمد العكس، فعلى سبيل المثال: فلا تقل "دعنى أشفى من المس ثم انظر في شخصيتي وباقي التأثيرات..." فهذا من الاستسلام والانهزامية، فليس كل شيء سببه "مس"، بل ربما حينما تصفى لك شخصيتك وتفكيرك وفطرتك وتتغلب على التأثيرات الأخرى فسيسهل عليك التغلب على المس ربّما بدعاء واحد أو آية واحدة أو عمل صالح واحد فمن يدري؟ ومَن مِنَ البشر يمكنه نفي ذلك؟...ولا ننسى بأننا نتعامل مع نفس معقدة لا يعلم حقيقتها إلا خالقها.

22...فحتى الراقي عليه معرفة الشخص المريض وتمضية القليل من الوقت معه لتحليل شخصيته ومعرفة ما يدور حول هذه النفس قبل الرّقية، ألا ترى كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصح كل شخص بحسب حاله؟

وهنا يأتي دور التعامل مع النفس البشرية لتمييز الخلل والتعامل معها، وتقوية نفسية وشخصية المريض ليستعد المحل لتقبّلِ العلاج والرقية والاستفادة منها، والثبات على ذلك. ألا ترى أن القرآن -مع أنه شفاء- إلا أنه لا يزيد الظالمين إلا خسارًا كما قال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)؛ فهو حجة على الظالمين لا لهم، الذين ظلموا بالجحود أو بعدم العمل به كما قال المفسرون.

والمقصود أنه قد لا تكون الآثار المشاهدة في المصاب كلها من ذاك المس أو العين كما أشرت سابقًا، فلذلك ينبغي التمييز والتهيئة ثم العلاج، وما ذكرناه سابقا قد يفيد الراقي وكذا الجزء الأول من هذه المقالة. ولا أرى مشكلة أن يتعلم الراقي شيئا من علم النّفس الحديث "التجريبي" فإنه مفيد جدا ويفتح المزيد من أبواب الخير ولا سيما إذا مزج بين الأمرين في هذه الجزئية...

23.فقديما كان سلوك العبد ونفسيته تعتدل بمجرد رؤية سلوك غيره في الطرقات والمدارس والمساجد والأسواق والأماكن العامة وسماع الخطاب الهادف، لأن التربية قديما كانت بالقدوة الصالحة المطمئنة والتربية بالـمِثَال (lead by example)، بينما اليوم مع غياب التربية العملية الهادفة في جميع الأماكن صرنا في أمس الحاجة إلى أطباء نفوس لاستعادة الشخصية الحقيقية وإرجاع النفس إلى فطرتها باستمرار.

 

رابعا: معوقات ومعتقدات ومزيد قواعد

24. ليس غلطا أن تتذكر ماضيك لتتعلم منه وتستفيد من تجاربك، إنما الغلط كل الغلط أن تعيش دوامة ذكريات الماضي المؤلمة والعاطفية المحزنة (أحزان، بكاء، عزلة...) فلن تزيدك إلا هما وغما وكآبة.

25. دوامة الماضي (وليس الماضي ذاته وإنما " التقلب في دوامته") الخاصة بك أو بغيرك مضرّة، ألا ترى أنّ أسلافنا لم تكن لديهم إمكانيات إعادة الماضي (الفيديو، يوتيوب،....) فكانت أذهانهم صافية للتعايش مع حاضرهم وبناء مستقبلهم.

26.نعم! قد يكون لدينا ماض قاس، وقد يحزن العبد ويتألم منه وهذا أمر فطري، لكن القضية هنا ألا تقع في شراك العيش والتقلب في "دوامته" ظنا منك أن مدوامة السماع لما يذكرك بالماضي سَيملئ حاضرك ويسد الفراغ الذي تركته خطوب الماضي وحوادثه. لا! ليس الأمر كذلك، فأثره سيأتي نقيض ذلك تماما، بل يسيغلبك وستزيد فجوة المعاناة، وتتغلغل المزيد من الأحزان والأسقام إلى نفسك وجسدك لأن التقلب في دوامة أحداث الماضي المؤلمة وحتى الجميلة التي فارقناها قد يمتد سنين وسنين ولا يسدّ تلك الفراغات شيء مما نحب سماعه أو مشاهدته، والسّبب في ذلك أن هذه الأمور وهمية والفراغات وهمية كذلك، وأنّ "دوامة" الماضي وهمية مع أن أحداثه حقيقية إلا أنّ دوامته وهمية غير صالحة للعيش فيها، فكان علينا بانتهاء الحدث العبور والسير والتقدم مع تقدم العمر كما يتقدم غيرنا، لأن الزمن لا ينتظر والأحداث لا تنتهي. ففي الواقع عندما تعيش دوامة الماضي بالبكاء والحزن وتعيش أحلام اليقظة فأنتَ أدخلت نفسك في حالة غفلة وغيبوبة وتوقفٍ تام لمسير حياتك وتطورها، مع أن الزمن لم يتقوف ولم ينتظرك لحين انتهائك من البكاء والحلم، وهذا أمر غاية في الخطورة لما له من عواقب وخيمة عليك وعلى أسرتك ولا سيما مع تقدم العمر...

27...فإذا تذكرتَ أيّ أمر مؤلم وهذا أمر فطري فاحمد الله تعالى أنك بخير وأنك تمكنت مِن تخطيه والعبور. ولا تنظر إلى الأمور من منظور غيرك بل من منظورك أنت حتى لا تقسو على نفسك كأنّك تحملها اللوم والعتب والذنب؛ فهي لها حقوق عليك. ثم هل ستجد أحدًا من البشر بإمكانه العطف على نفسك أكثر منك؟

28.هناك فرق بين التأثر اللحظي الطبيعي بسبب الحوادث وبين الدخول في دوامات الحزن والبكاء وأحلام اليقظة، لذا نصيحتي تجنب فورا دوامات (الإغراق في) متابعات مقاطع الفيديو التي تهيج البكاء والأحزان وعش لحظتك فقط، فستشعر بصفاء الذهن وقوة التفكير وإيجابية التفاعل مع الواقع.

29.إنّ عَدم الشعور بالراحة لا يعني منه انعدام الأمان (الهلاك)؛ (انظر تفصيل ذلك في الجزء الأول).

30.فَرِّق بين إمكانية حدوث الخطر وبين احتمالية الحدوث؛ وهو الفارق بين الخوف الخيالي والحقيقي. (انظر تفصيل ذلك في الجزء الأول).

31.تيقن كل اليقين أن ساعة العبد إذا لم تحن أثناء وقوع خطر حقيقي فإنه سيتغلب على ذاك الخطر، فما بالك إذا ما كان الأمر مجرد تخيلات (أنواع الرهاب). فاحذر أن تدخل نفسك في دوامة التفكير والوسوسة حول هذا الأمر الفطري...وهو الموت

32.أي: اجعل مسألة الموت مسألة فطرية لأنها كذلك. فهي ليست من ضمن الخوف من "المجهول" كما يظن البعض. فمن الغلط اعتبار الموت مجهولا فيُعامل معاملة المجهول، لأن الموتَ شيء فطري معلومٌ وقوعه وإن جهلنا وقته، فكما دخلت إلى الدنيا فإنك ستخرج منها للقاء ربك فهذا أمر معلوم؛ فالمجهول فقط هو الوقت وليس الموت. فإذا كان الأمر كذلك فما عليك سوى التسليم والإيمان بالله والاستعداد تلقائيا لذلك في كل أحيانك، بمعنى استغل الفرص المتاحة لديك: حقق كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) على واقعك أنت: اعبد الله، وداوم على العبادات وأعمال البر من زكاة وصدقات ومحبة الأنبياء والصالحين، وحب المسلمين المؤمنين ونصرتهم والولاء لهم، والتحلي بالأخلاق الفاضلة والحرص عليها ونشرها في المجتمع المسلم وغير ذلك من لوازم الإسلام على قاعدة (سددوا وقاربوا) متوكلا على الله! فهكذا يستعد العبد للقاء ربه يعش مطمئنا "وإن لم يعبر الجسور ويصعد المرتفعات...". فلذلك اترك فورًا هذه الطريقة من التفكير التي تدخلك في الوساوس وابدأ بتغيير نفسك وارجعها إلى فطرتها في هذا الأمر! وانظر إلى حديث نبينا صلى الله عليه وسلم كيف فسر الموت فقال: (مَن أحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ أحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ. قالَتْ عائِشَةُ أوْ بَعْضُ أزْواجِهِ: إنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قالَ: ليسَ ذاكِ، ولَكِنَّ المُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ برِضْوانِ اللَّهِ وكَرامَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ فأحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ، وأَحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، وإنَّ الكافِرَ إذا حُضِرَ بُشِّرَ بعَذابِ اللَّهِ وعُقُوبَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أكْرَهَ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ، وكَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ)...

33...وأما الخوف من ما يسميه الناس "المجهول" فهذه خيالات محضة. فلماذا اصطلحوا عليه بـ"مجهول"؟ وكيف عَرفوه حتى وصفوه بـ"المجهول"؟  ولا سيما وقد عرفنا أن "الموت" ليس مجهولا،  فما هو هذا المجهول -إذًا-؟!

34....والنصيحة العامة من تجربتي: إذا أردت التغلب على وسوسة "الخوف من المجهول(!)" فحاور نفسك كما تقدم ليتغير تفكيرك، أو على الأقل حاول -تجريبيا- أن تتغلب على العيش في الظُّلْمة والتعامل معها بشكل عقلاني، فوضْعُ نفسك في مكان مظلم كفيلٌ بإخراج الخيالات وأوهام الاحتمالات الزائفة التي تخطر على البال دون استئذان لأنها تراكمات ماضٍ لم نحسن التعامل معه، وأنها من صنع الأفلام والأحلام والمعتقدات الفاسدة. والمدهش أنك سترى أنّ كل الأسئلة التي تخطر على بالك وأنت في مكان مظلم تشابه التي تسألها في مسائل أخرى كعبور الجسور والرتفعات ومواجهة الجمهور وغير ذلك أعني: طريقة التفاعل النفسي مع الاحتمالات، فطريقة التفكير واحدة ومحرك الاستنتاج واحد...

35... فلذلك ينبغي هنا تغيير طريقة التفكير في التعامل مع الحوادث، فلا تتفاعل إلا عند وقوع الحدث ليس قبل ذلك باحتمالات خيالية كلها في الذهن، ولا تستعمل عبارة "الصدمات" وإنما "حوادث". فبتغيير طريقة التفكير في التعامل مع الظُّلْمَة ستتغير الطريقة تلقائيا مع سائر الأشياء وفي كل مكان. وأمّا القول بالخوف من "المجهول" فهذا مما ينبغي التوقف عنه فورا  كما وضحنا الكيفية سابقًا وإعادة برمجة النفس على تقبل الطبيعة والتعامل معها بالفطرة.

36.غالبًا ما يزداد القلق وتتتسع دائرة "الرهاب" بسبب معتقدات فاسدة نشأنا عليها، ولا يزال الإعلام يستعملها فاعتقدنا صحتها، بينما هي خلاف ذلك، فتتأثر النّفسية دون الشعور بذلك، كتسمية مثلا أعمار الناس بالبداية والوسط والنهاية. فمع أنه لا أحد يعلم متى الأجل إلا أن هذا الكلام منتشر في كل مكان كما هي ثقافة الغرب. ثم هذه العبارة لا تحتاج إلى كبير عناء لردها؛ أفلا نرى من يموت في مختلف مراحل الحياة، فكيف نقول أن الإنسان بلغ منتصف العمر أو نهايته أو بدايته؟ من أين لنا بهذا العلم؟

37.نعم! للإنسان مراحل بالنظر إلى الأعمار والبنية يمكن تصنيفها به، ومع ذلك فلا يمكن أبدًا أن نصنّف عمر الإنسان بالنظر إلى وفاته فنقول في بداية عمره أو وسط عمره أو نهاية عمره؛ لأننا بكل بساطة –وهي مُسَلّمَة- لا نعلم الأجل الحقيقي للإنسان ولا أحد يعلم ذلك إلا الخالق سبحانه وتعالى. فتنبه لهذا فإنه من المحفزات الطبيعية الإيمانية التي تعطيك الشعور بالاطمئنان والراحة النفسية.

38.إنني من المقتنعين كامل القناعة أنّ وسائل الإعلام اليوم هي أكثر وسيلة تزعزع شخصية الطفل والناس عامة، فانظر إلى ماذا تحول تركيزهم في جانب بناء الشخصية:

§       جل اهتمامهم بنشر الحوادث ومصائب الناس وقصص الخطف والخوف والبكاء والأحزان في سباق نحو السّبق الصحفي وإن كان الخبر قد أكل عليه الدهر وشرب؛ تَذَكّر: "دَوّامة أحداث الماضي"!!

§       الإغراق في نقل أخبار مشاهير الفنون والشهرة: حتى أصاب الكثير من الصغار (بأنفسهم أو من تأثير آبائهم) والكبار أحلام اليقظة وحب الاهتمام والشهرة. ومع عدم القدرة على ذلك والفهم المغلوط للشهرة وللواقع خرجوا عن فطرتهم، وأضاعوا هويتهم وشخصيتهم، فأحاط بهم اليأس والهمّ والكآبة من كل جانب، وظلموا أنفسهم من حيث لا يدرون.

فهذا غالب ما ينشره عامّة الإعلام، بينما حوادث الجانب المشرق والذي هو الأكثر وقوعًا فنادرا ما نراه، وأمّا نشر الأخلاق الفاضلة وتشجيع أعمال البر العامة وقيم الإسلام وتنمية الشخصية المسلمة فقل : "لا شيء" من ذلك ولا حرج!

39. ...وعلى ذلك وحينما يقول لك الناس أو يشعرك الإعلام بأنك "مش ناجح/لست ناجحًا"  لأنك "مش مشهور/لست مشهورًا" أو يحكمون عليك بمشاعرهم أو لسبب لا أحد يملك تغييره فاسألهم:

 عرّفوا لي معنى النجاح؟ ومعنى الشهرة؟ وأين أنتم من الشهرة والنجاح؟ أي: ضعهم على على شريحة المجهر...

...ثم استعمل التفكير الفطري الصافي ونظرية الفرص! فستطمئن وتزداد يقينا أن هم من تقع عليهم المسؤولية -من باب أولى- من عدة وجوه: من جهة أنهم هُمْ مَنْ عليهم أن يتقبلوك كما أنت بفرصك المتاحة وليس العكس (أي كما خلقك الله)، وأنّ الكلَّ سيسأل أمام الله عن الفرص التي أتيحت له لتحقيق العبادة ونشر رسالة الإسلام والإيمان والبر والتقوى (أي: ماذا فعل العبد بالفرص المتاحة له من مال وقوة وعلم وغير ذلك كما بينا سابقًا...)، فهذا هو المعنى الحقيق للنجاح والشهرة...

فلا ينبغي -إذًا- أن تحيا حياة الفرائس، ثم تُدخل نفسك في دوامة الهمّ والخوف النفسي من المفترسات. فأنت من البشر كغيرك لديك ما لديهم وربما أكثر، فالعبرة باستغلال الفرص –وإن كانت قليلة- أحسنَ استغلال علىى مراد الرب سبحانه وتعالى الواحد القهار، الحكيم العليم، الرحيم الحليم، الغفور الودود...

40. ...وانظرْ! فكثيرًا ما يوصف فردُ من أفراد المجتمعات بالأكثر تأثيرا أو ثراء أو شهرة مّما أثر سلبا على نفسية الكثيرين صغارا وكبارا بما في ذلك الآباء مع أبناهم، فأضاعوا شخصيتهم الحقيقية لمحاولة الوصول -إلى ما أوصل الإعلام أولئك- ولو بالمظهر والرقص والتغني والمشاركات في مواقع التواصل، فتحول الأمر لدى هؤلاء إلى ركض وراء سرابٍ ؛ فأصابهم الهم والحزن والكآبة مِنْ فَقْدِ الثقة في النفس والشخصية والإيمان بالفرص المتاحة لديهم. فإن كان قد أصابك شيء من ذلك وصَدّقْت أن ميزان التأثير هو ما ينشره الإعلام المبني على الشهرة والمال والاقتصاد فاطمئن واقرأ  كلام الله تعالى الخالق العالم بالبشر؛ رب الناس إله الناس: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)! نعم يا رب! لا يوجد من هو أحسن من هذا العبد قولًا ولا تأثيرَا!؛  وقال تعالى: (والعصر إنّ الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)!

فما رأيك الآن؟! فأيهما أعلم بأحوال البشر وما يريده البشر؛ فـ(مَن أصدق من الله حديثا)!

41...ومسألة تحديد "الأعمار –بالبداية-والوسط-والنهاية-" المزيفة والتي تسبب القلق النفسي والاضطرابات كما سبق بيانها تشبه ما تفعله الشركات اليوم بطالبي الوظائف حينما يقال للخبراء الكبار والمتقدمين في العمر أثناء المقابلات بــ "overqualified؛  فهذا من جهةٍ نوع من أنواع التمييز بالعمر "discremination"  لكنه بطريقة قانونية...فهم في حقيقة الأمر لم ينظروا إلى الخبرات وإنما إلى العمر، فلذلك رفضوا توظيفهم والحجة أنهم ذووا كفاءة عالية!!...

..فهل ترى من العقل السليم والفطرة السّوية أن ترفض مَن لديه كفاءة عالية وأنت تبحث عن الكفاءات؟! لذا فلا ينبغي أن تُجعل مسألة التقدم في العمر من الأمور الطارئة حتى تُعامَل معاملة الغريب والعدو، بل هي من الأمور الفطرية التي يجب التعامل معها بكل طمأنينة وسِلْمية وتقبلها في الواقع، ليس وضع المزيد من الضغوط النفسية على الناس وإدخال نوع جديد من "الرهاب!!" كأن الذي يتقدم في العمر مصيره قفص الاتهام بسبب الشيب الفطري الظاهر عليه أو عليها...وكأنَّ هذا الذي لا يقبل توظيف مَن تقدم في العمر سُيعَمِّر(!) شابًّا...هذا إن عَمَّرَ.

42.للناس مشاعر وتصورات ولي مشاعر وتصورات ولك مشاعر وتصورات: فلا تسْمَح لهم من إسقاط مشاعرهم وتصورات على مشاعرك فتنظر بها وتحكم بها، بل انظر بمشاعرك أنت( أي: تصفية الذهن..) ثم احكم على المسألة العقلية التي يتحدثون عنها. يمعنى ارجع إلى فطرتك وثق بها فهي مرجعك عند كل تغيير نفسي...

43....وإنّ عملية (1+1 ) ليس شرطا أن تساوي اثنين؛ ففي لغة الحساب تساوي"2"، وفي لغة الحاسوب "1"، وأما في لغة القضايا المجتمعية والشخصية "فلست ملزمًا بالإجابة على كلِّ سؤال"، فالحياة ليست علوم دقيقة 1+1 =2 كما يريدها المتنمرون والحاسدون الذين يتلاعبون بأحاسيس الناس وما أكثرهم! استعمل هذه القاعدة فستشعر بصفاء الذهن الذي هو من فطرتك.

44...ومهما يصيبك من هموم المؤثرات الخارجية فدوامْ التفكير على أنك لست إنسانا فقط كما يريد أقوياء هذا العصر وإعلامهم، وإنما فكّر دوما وفي جميع شؤونك وقراراتك على أنك إنسان "مُسلم"، لتبقى لديك تلك المسلمات التحفيزية الحقَّة التي تعتمد عليها وترجع إليها وتطمئن إليها في دنياك ولآخرتك. فلا شيء في الدنيا خُلق عبثا فكلّ شيء له مسلَّمات، ونحن –المسلمين- لدينا مسلمات وثوابت بنص الكتاب والسنة وبالفطرة السليمة.

45.وإذا حدث وأن أخطأتَ وهو من طبع البشر الفطري، فلا تدخل نفسك في دوامة التأنيب واللوم إلى ما لا نهاية؛ أعني عليك أن تباشر حياتك  كما باشرها من أخطأتَ في حقه إن كان الخطأ متعلقا بالغير. وفي جميع الأحوال ما عليك سوى التصحيح والمواصلة لتبتعد عن "الدوامة"؛ بمعنى ارجع نفسك إلى فطرتها في هذا الجانب وواصل سيرك كما يواصل غيرك فإنهم لا ينتظرونك، بل ينظرون إلى فشلك بل ربما ينتظرون ذلك ليصبحَ مادة إعلامية على مواقعهم، فلا تسمح بذلك احترامًا وتقديرا لنفسك وشخصك قبل كلّ شيء...

46...وفي حال دخولك دوامة العواطف التي غالبا ما تخرجك عن فطرتك السليمة كالإغراق في متابعة الأفلام وفديوهات الحوادث والمباريات والحفلات التي تتلاعب بشعورك وفطرتك ظنا منك أنها تنسيك أثر الحوادث وتسد الفراغات مع أنها في الحقيقة تدخلك في صراع نفسي غير مستقر فاسأل نفسك:

§       ماذا لي من المشاهدة؟

§       وماذا لي من التشجيع؟

§       وأين أنا في معادلة التمثيل أو اللعب أوالحفلة أو غير ذلك؟

§       وماذا استفدتُ من كل هذا التشجيع والمشاهدة طيلة السنوات السابقة؟

§       وماذا استفاد الإسلام والمسلمين وفقراء المجتمع وذوي الحاجات بشكل عام من كل ذلك؟

والجواب: لا شيء! فرح وهمي! وحزن وهمي! بل غيبوبة تامة!

فما نحن في نظرهم إلا "مهرجين" متفرجين، نتحمل الأعباء بدون مقابل، بل نقوم بإهلاك أنفسنا التي من المفترض أن نحبها ونعتني بها ونحترمها ونعطيها حقها من الاستقلالية وتحمل المسؤولية ونرجعها إلى فطرتها السليمة فهي النجاة.

 فانظر كيف أنّ جوارحك ستحاسبك على تقصيرك قال تعالى:(يوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وكفى بذلك موعظة أن تترك تلك الأشياء المذكورة سابقا التي هي من الأسباب المباشرة لكثير من الاضطرابات النفسية بل أكثر من ذلك.

47.فمِثْل ما عشنا في الخطأ والخيال وانحراف عن الفطرة سنين فإننا بمقدورنا العيش على الصح والحقائق والفطر السلمية سنين، ولا سيما إذا تحولت مسألة العودة إلى الفطرة عادة؛ وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم (سددوا وقاربوا)؛ فصراعك مع الشر قد يعتريه الفوز والخسارة ولكن لا للاستلام ولا للانهزام، ولو لم يكن ذلك كذلك لما كان هناك رجوع و لا توبة! ومن يقل خلاف ذلك من البشر فإنه يدعي المثالية وهي لا توجد إلا في الأذهان أو الأحلام أو الأفلام!

48.نعم قد يغضب الإنسان وينفعل ويضحك ويحزن ولكن اعط كل لحظة حقها من ذلك؛ "ساعة ساعة"، فلا تنجذب إلى دوامات الأحزان، صفِّ ذهنك والزم فطرتك الجميلة، وقدّر نفسك أحسن تقدير.

49.فأي شيء جميل يحفزك للرجوع إلى فطرتك والحفاظ على شخصيتك اكتبه لترجع إليه وتذَكّر نفسك؛ فالقرآن الكريم كلام الله وقد شاء تعالى أن يُكتب حتى يُحفظ فيرجع إليه الناس باستمرار ليحافظوا على فطرتهم.

50.وأمّا المشاعر المستقبلية...فكثيرا ما كنا نسال أنفسنا...ماذا لو..ماذا لو...ماذا لو...فإذا كنت تفعل ذلك فتوقف فورا، فكلها خيالات وتخيلات قبل وقوع الأحداث...فلستَ مسؤولًا عن معرفة مشاعر مستقبلك بل عش اللحظة ذاتها ثم اطو الصفحة وتابع سيرك. فانظر إلى النّبي صلى الله عليه وسلم لما حزن في أمر غاية في الأهمية قال له تعالى:(لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين)؛ فالحزن على أشياء في الذهن لم تقع ولست مسؤولا عنها لا تدخلك إلا دوامة الكآبة، بل ستتعطل شخصيتك ومهاراتك، بل حياتك وحياة من حولك! وهذا الأمر وهو عدم الدخول في الحزن والكآبة بسبب الغير يمكن تطبيقه في مسائل تغيير المنكر العام الذي يؤثر على الشخصية والنفسية وذلك بسؤال نفسك:

·       هل أنت راض عن وجود هذا المنكر وانتشاره؟

·       هل أنت واقع فيه؟

·       هل تستطيع تغييره؟ بمعنى هل لديك القدرة القانونية والمسؤولية على تغييره؟

إذا كان الجواب لا! لا! لا! فلا تلم نفسك واطمئن واستمر في السير، فإن المسؤولية في تغيير المنكر العام واقعة -في هذه الحال- على غيرك لست أنت.

51.إنَّ الفطرة تقرر أنّ ذِكْرَ الله تعالى هو الذي يدخل الاطمئنان إلى القلب ويذهب الفراغات النفسية التي تسبب الاضطرابات، قَال تعالى (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، فلماذا يقرّر المخلوق أن النفس في مرحلة مَا أو عند حدث ما تريحها الموسيقى أو الرقص أو حضور حفلة أو مباراة فريق أو منتخب أو أن هذه الأشياء تدخل الاطمئنان إليها وتخرجها من الاضطراب النفسي؟ فأيهما أصدق: أالله تعالى الخالق أم المخلوق؟ قال تعالى (ومن أصدق من الله قيلا) (حَديثا)..؟! فتصفية الذهن والرجوع إلى الفطرة لمعرفة السبب الحقيقي وتخفيفه أو علاجه بالتي هي أفضل، هو حَلّك فلا أحد يعلم أسرار هذه النفس إلا الله تعالى وقد أعطانا المخارج، ليس كما قرره غيرك من البشر حيث ربطوا اطمئنان النفس -التي يجهلون حقيقتها- بالموسيقى والغناء والرقص واللهو، فلا أراهم إلا يفرغون الجيوب والنفوس من كل شيء جميل!

52.فطرتك هي التي تحدد طبيعة الخوف هل هو حقيقي أم خيالي؟ فدعها تعمل لوحدها فإن الله تعالى خلق للإنسان الحس الكافي للتفاعل مع الخوف الطبيعي أو الحقيقي بالأدوات المتاحة، وهذا يشبه مَا تعاف أنفسنا بعض الأكل والشراب فكل هذا أمر فطري، بينما الخوف الخيالي فهو من صناعتك وانحراف عن فطرتك لذلك لم يزدك الأمر إلا خوفا وحزنا وكآبة، بل دائرة الخوف الخيالي في اتساع مع مرور الزمن.

53.يجهد إبليس وأعوانه من الإنس والجن في إدخال المسلم دوامةَ الأحزان والخوف والهموم والاكتئاب؛ قال تعالى (إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْـًٔا إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ)، وقال تعالى (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). ولنا في حادثة شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم عبرة وأن الشيطان له تأثير كبير على سلوكيات الفرد؛ فعن أنسِ بنِ مالكٍ: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عَليهِ وسلَّم أتاهُ جبريلُ صلَّى الله عَليهِ وسلَّم وهو يلعبُ مع الغِلمانِ، فأخذهُ فصرعهُ، فشَقَّ عن قَلبِه، فاستخرجَ القلبَ، فاستخرجَ منه عَلَقَةً؛ فقال: هذا حَظُّ الشَّيطانِ منكَ".

فاسأل نفسك إذًا: أيهما أولى بالشعور بالأمن والاطمئنان القلبي والنفسي، وأيهما من المفترض أن يكون أكثر اطمئنانًا؟!  أإبليس وجنوده من الإنس والجن الذي حكم عليه تعالى بالخسران والهلاك وملء جهنم بهم؟ أم المؤمن الصابر التقي المحقق لكلمة التوحيد الذي وعده الله تعالى بالأمن والأمان والجنة؛ الذِي اطمأن عقلا وتجربة وإيمانًا ليس عقلا وتجربة فقط؟! فاجعل هذه القاعدة مرجعًا متى شعرت بالخوف أو الاضطراب، لأنك ستجد نفسك بعد كل حادثة أو واقعة أكثر قوةً: عَقلًا وتجربة وإيمانًا! وهذا هو الفارق بين من يستصحب الفطرة (الإسلام والإيمان والإحسان) في معالجة الأمور النفسية وبين من يتجاهلها جملةً!

54.العطف والحنان ليس كما كنا نعتقد بأن يأخذك العاطف بحضنه، وإنما حقيقته نصح وحماية ورعاية، فتذكر ذلك جيدا وأمعن النظر في تفسير قوله تعالى عن عبده يحيى: (وحنانا من لدنا).

55.الشعور بالأمان والاطمئنان النفسي ليس أن تكون في بيتك أو في قصرك أو بين خدمك أو حرسك وإنما الحقيقة أن تعيش مع الله تعالى في كل أحيانك، فحينئذ ستتمكن من تصفية الذهن ويطمئن القلب فالجوراح تباعا؛ لأنك في الطريق الصحيح للاستعداد للقاء ربك سبحانه وتعالى. حينما تداوم على مثل هذا التفكير الفطري فستتغلب على وساوس عديدة جدّا التي من صنع إبليس وجنوده من الإنس والجن...

56....فركوب الإنسان الطائرة أو سكنى ناطحات السحاب والأبراج وعبور الجسور العالية أو القدرة على مواجهة الجمهور أو غير ذلك بكل فرح وسعادة لا يعني من ذلك الاطمئنان النفسي وعدم خوفهم من الموت كما قد يدّعي البعض؛ ألا ترى أن الكثير من الفجور والعصيان يُرتكب في الجو وفي الأماكن المرتفعة والمغلقة والمحروسة، فهل يُعد هذا من الاستعداد للقاء الله في شيء؟! فأين –إذًا- الاطمئنان المزعوم؟! وأيهما أولى بالاطمئنان –كما بينا في النقطة السابقة-؟!

57.وتذكر دومًا: أنّ الشيء الوحيد الذي كلما خفت منه ازددت أمنا واطمئنانا هو: الله تعالى وحده لا شريك الله؛ فلَا تربط اطمئنانك بوجود الآخرين معك في التعامل مع مخاوفك ولا سيما الوهمية منها...

58...فإنك كلما خفت الله ستشعر بالأمان وتزداد اطمئنانًا فإن مخافة الله هو الشيء الوحيد الذي إذا فعلته ازددت إيمانا وأمنا..بينما الخوف من المخلوقات وكلامهم فلن يزيدك إلا رعبا وضعفًا، وأما الخوف من الخيالات والتخيلات فلن تزيد العبد إلا خوفا وهوانا وجبنًا!

59.فانظر إلى جبل أحد "الجماد" كيف اهتز ، فعن أنس رضي الله عنه قال: (صَعِدَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُحُدًا ومعهُ أبو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمانُ، فَرَجَفَ، وقالَ: اسْكُنْ أُحُدُ - أظُنُّهُ ضَرَبَهُ برِجْلِهِ -، فليسَ عَلَيْكَ إلَّا نَبِيٌّ، وصِدِّيقٌ، وشَهِيدانِ)...فقوة الإيمان والرجوع إلى فطرتك السليمة الموحِّدة تقوي إيمانك وتذلل لك الصعوبات والمخاوف النفسية والمادية...

60...وأنّ الأرض ومن عليها التي نسمّيها بـ"الجمادات" هي مخلوقات حية بعبادة الله تعالى؛ قال تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) فهي حية بذكر الله تحب الصالحين أن يستعملوها في مشي وسكنى وجلوس ولباس وشرب وغير ذلك، فما عليك إلا أن تأخذ بقواعد السلامة متوكلا على الله، فإن الجماد المسخر للعباد جاء لخدمة الصالحين بالدرجة الأولى قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، فهي بالدرجة الأولى للمؤمنين الصالحين...

...وأما المحبة والاطمئنان فانظر كيف حن جذع إلى الذِّكْرِ فعن جابر رضي الله عنه قال: (إِنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالتْ امرأةٌ مِنَ الأنصار أو رجل: يا رسولَ اللهِ ألا نجعل لك منبراً؟ قال: إِنْ شِئْتُمْ، فجعلوا له منبراً، فلمَّا كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر فصاحت النخلةُ صياح الصبيِّ، ثم نزل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فضمَّها إليه تئن أنين الصبيِّ الذي يسكن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها)، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ولقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وهو يُؤْكَلُ)، وانظر كذلك إلى هذا الحديث المحفّز فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إنَّ اللَّهَ إذا أحَبَّ عَبْدًا دَعا جِبْرِيلَ فقالَ: إنِّي أُحِبُّ فُلانًا فأحِبَّهُ، قالَ: فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنادِي في السَّماءِ فيَقولُ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّماءِ، قالَ ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ، وإذا أبْغَضَ عَبْدًا دَعا جِبْرِيلَ فيَقولُ: إنِّي أُبْغِضُ فُلانًا فأبْغِضْهُ، قالَ فيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنادِي في أهْلِ السَّماءِ إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلانًا فأبْغِضُوهُ، قالَ: فيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ له البَغْضاءُ في الأرْضِ)، وجميع هذه الأحاديث في الصحيح؛ فكن إذًا مطمئنا فالمخلوقات التي نسميها جمادات هي حية تسبح، وتحب الصالحين وتحن لكلامهم والعيش معهم لسماعهم الذكر ليل نهار، وقل العكس بالعكس مع الفجرة والفسقة.

فأقول  لنفسي ولك كما قال لنا نبينا صلى الله عليه وسلم ناصحا: (قل آمنت الله ثم استقم) فحينها ستستقم لك النظرة إلى الحياة الدنيا، وبذلك يستقم لك شعورك وتسكن نفسيتك، وتتحول المدوامة على محاسبة النفس وإرجاعها إلى الفطرة السليمة بالحكمة من العادات الجميلة والرفيعة، وستتعجب حينما ستكتشف أن هذا "الرهاب" من "ذاك الشيء" لم يكن سببًا ولا هدفًا، بل سيزول بإذن الله بالكلية من ذهنك، وستميز بين المخاوف وأسبابها الحقيقية وستتوجه إلى أمور أخرى في حياتك ذات أولوية لـم تفكر فيها!

61.إذَا رأيت نفسك تحكم بناء على حب فريق أو شخص أو جنسية أو عشيرة أو مال أو منصب فاعلم أنك في صراع نفسي شديد غير صحي ضد نفسك، لأنه دائر بين الحزن والفرح الوهميين، وهو مؤشر على وجود انحراف في الفطرة. لذا سدّد النفس إلى الفطرة السليمة كما سبق بيانه وأرجعها إلى اعتدالها بما أراده الله منك في هذه الأشياء "الفرص"، وتذكر بأن الخوف من الله وتقواه هو الذي يزيدك أمنا وإيمانا ويزيل عنك الهموم والخيالات...

62...ولا تلم نفسك على عدم امتلاكها الفرص التي عند غيرها ثم تذهب لتعيشَ في خيال فرص غيرك كأنك تتقمص شخصياتهم؛ فاللوم وأنت في هذه الحال بمثاية تعذيبٍ للنفس بما لا يزيدك إلا هما وحزنا وكآبة وظلما للنفس البريئة. وتذكر باستمرار أن العبرة ليس بامتلاك الفرص وإنما باستغلالها على مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن كانت جدّ قليلة.

63.كلما تردّ نفسك إلى فطرتها بصفاء التفكير وحسن التحليل فستجد نفسك في مواجهة ما كنتَ تعتقده خطرا بنقيض التفكير الذي كنتَ تحمله. وليكن الأمر بالتدرج ولا تستعجل فالأمر سيبدأ بالاختلاف بالتدريج نحو الأحسن عما كان عليه في السابق. واصبر وصابر فتراكمات سنوات عديدة لن تزول بساعة أو ساعتين، فما عليك سوى التصفية والتقدم، وسترى أنك في طريق التغلب على أشياء أُخَر لم تخطر على بالك، بل سترى أن عبورك للجسر –مثلا- لم يكن البتة سببا بل أثرا  كغيرها من الآثار، وأنه لم يكن أيضا هدفًا حيث ستشعر بالاطمئنان والتغير وستُسَرّ بالنتائج وإن لم تعبر ذاك "الجسر" بعد! لأنك ستعبره تلقائيا دون تفكير وبطبيعة البشر!

64.إنّ علاج الفكر المغلوط يكون دائما بالنقيض: أي بنقيض الفكر الموجود في الذهن وبأسلوب التكرار لإعادة البرمجة والإقناع. فالمرض النفسي "الرهاب" جاء من واقع تفكير مغلوط، وثبت بالتكرار حتى برمجها الجهاز العصبي فصار يتعامل معها تلقائيا ويظهر ذلك على الجوارح. فكذلك العلاج يكون بنقيض ذاك الفكر السّلبي الخيالي وبتكرار مناقشة النفس وإقناعها، فكأنك في صدد إعادة برمجة جهازك الحسي والعصبي ليتحول الأمر إلى عادة فطرية...

65.إنّ العلم هو علاج الجهل والخيال! فلا شيء يخيف الإنسان أكثر من الجهل كما قال الخبراء.

66....فإعادة برمجة الجهاز الحسي والعصبي تكون بالمعرفة أي العلم بالحقائق، وتفسير السّلوك بمعرفة مصدرها أو سببه لتتمكن من مناقضة المعرفة القديمة ومحو ذاك السلوك المغلوط القديم، وبذلك تبدأ برد نفسك إلى طبيعتها وفطرتها. فمما يساعدك على ذلك بأن تصفي ذهنك قبل التصرف والابتعاد عن التحليلات التخيلية لأشياء لم تقع...

67...فعلى ذلك لا يوجد –في نظري- شيء اسمه أنا طبعي كذا (طبعي "خواف"، طبعي عصبي،...) مما يعطيك الشعور السلبي بتعذر التغيير، فتزداد بذلك الهموم والغموم...فكلّ ذلك أوهام بعضها فوق بعض، بل يمكن للسلوك أن يتغير ويعود إلى فطرته بتغيير نمط التفكير وتصفية الذهن والمداومة على ذلك ليصبح الأمر عادة والتصرف السليم تلقائيا...

68...ومع ذلك فلا توجد مثالية ولا كمالية في عالم المخلوقات، وإلا لما وُجد غلط ولا توبة ولا رجوع...فمع كل حادث أو خطأ فدع انطلاقتك دائما من فطرتك السليمة والتفكير الصافي السليم...فالمؤمن مصاب، قال تعالى (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص ‏من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) وقال تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)، وقوله تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)؛ فهذا كلام ربنا وأن الإنسان معرض للمصائب والحوادث، وأهم عامل للعلاج هنا هو الصبر وذكر الله تعالى ليس العيش في دوامات الهم والحزن والكآبة ودوام مشاهدة ومتابعة ما يدخل إلى النفس الحزن في قنوات التواصل والإعلام ظنا أنها ستسد الفراغات النفسية بينما هي تزيد في الاضطرابات النفسية والمزيد من المخاوف..

وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم كذلك لبعض العلاجات النفسية كقوله: (ما أصاب أحدًا قطُّ همٌّ ولا حَزَنٌ فقال اللهمَّ إني عبدُك ابنُ عبدِك ابنُ أمَتِك ناصيَتي بيدِك ماضٍ فيَّ حُكمُك عَدْلٌ فيَّ قضاؤُك أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك أوْ علَّمْتَه أحدًا مِنْ خلقِك أو أنزلته في كتابِك أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك أنْ تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاءَ حُزني وذهابَ هَمِّي إلا أذهب اللهُ همَّه وحُزْنَه وأبدله مكانه فَرَجًا قال : فقيل : يا رسولَ اللهِ ألا نتعلمُها فقال : بلى ينبغي لِمَنْ سمِعها أنْ يتعلمَها). والأمثلة كثيرة جدا جدا...

فمَن مِن البشر يستطيع  أن يعطي مثل هذا العلاج الفطري الذي يُقَوي على الصبر وتصفية الذهن والتقدم والاستفادة من الماضي دون الدوران فيه؟!

69.وخلاصة الأمر في ظني أن مجرد تسمية هذا الاضطراب الفطري بــ"الرّهاب" هو بحد ذاته زيادة تخويف وتهويل للأمور، لأن حقيقته لا تعدو أن تكون تخيلات وأوهام زرعت في داخيلتنا (نفسيتنا أو تفكيرنا) فتحولت مع العادة إلى حقيقة، ولو سمي بــ"الوهم" أو "الجُبْن" بمعنى "وهم المرتفعات" "وهم الجسور" "وهم الجمهور" وهكذا...لكان الأفضل والأنجع للعلاج حتى يبدأ المصاب رحلته بالتفاؤل من بدايتها. ثم إنه مما سبق بيانه أنّ جميع أنواع "الوهم=الفوبيا" أو جلها يدور حول:

·       الشعور بالاطمئنان: حلّها أن تشعر بالاطئمان بالله تعالى وإن كنت قويا مع الناس، ألا ترى أنّ المصاب إذا كان مع غيره فإنه سيتغلب على مخاوفه..فلماذا لا يستطيع منفردًا؟ فلذلك ينبغي مداومة الشعور بالطمأنينة مع الله تعالى وبالله تعالى بمداومة الذكر والمراقبة والخوف وفهم معاني أسمائه وصفاته تعالى. ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر حينما رآه مضطرب النّفس من المشركين وهما في الغار :(لا تحزن إن الله معنا) فسَكن أبو بكر...فلم يقل له صلى الله عليه وسلم لا تخف "فأنا معك"... كما يفعل الناس اليوم!

·       الشعور بالأهمية والتأثير في المجتمع: وقد سبق أن الأهمية تتحقق من واقع استغلال الفرص المتاحة على مراد الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم وهذا هو تعريف النجاح الحقيقي وميزانه، ليس من واقع الشهرة والمال والمناصب والجنسية والقوة وما شابه ذلك...فالتجاح الحقيقي و"الذكاء" الحقيقي أن يخرج العبد من الدنيا فائزًا!

·       التعامل مع الظُّلْمَة في الأماكن المعهودة: فالتحليلات وطريقة التفكير ونمطه وأنت في الظَّلام هو ذاته حينما تتعامل مع المخاوف الوهمية -التي لا تكون إلا في الأحلام والأفلام-، فإذا تغلبت على ذلك وتغير نمط تفكيرك في الظلام فيستغير في النور وأنت ترى الأشياء على صورتها وحقيقتها.

·       وسوسة الموت: والذي هو مداومة التفكير في الموت بطريقة سلبية مما يحجمك على السير والتقدم؛ وقد بيَّنّا سابقا أنه ينبغي التعامل مع الموت على أنه أمر فطري، وأنّ حقيقته هو: لقاء الله تعالى، وأنّ من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم..فالحلّ -إذًا- أن يداوم العبد على الاستعداد لهذا اللقاء بالأعمال الصالحة واستغلال الفرص المتاحة أحسن استغلال لأنه مسؤول عنها.

 

ثم اسأل نفسك: لماذا تقوى مثلا على عبور الجسر أو ركوب المصعد حينما يكون معك شخص آخر؟ أو تقوى على فعل ذات الأشياء التي تهابها بوجود أشخاص؟ والجواب لأنك شعرت بالاطمئنان فزالتْ عنك تلك الوساوس. وهو مما يرجعنا إلى نقطة الاطمئنان التي ذكرناها سابقًا، فالأمر ليس كما يُقال مرتبط كلُّه بتنظيم "النَّفَس" أو الظن بأنه هو "أساس المشكلة" وإلَّا لو كان الأمر كذلك فقط، فلماذا يزول الخوف بوجود الأشخاص؛ وهذا أحسبه من الفوارق بين الطب النفسي الذي يستصحب المسلمات الإسلامية وما سواه من طب نفسي يعزل دين المسلم.

فمثل هذا الاطمئنان -إذًا- صار بلا شك وهميًّا، لأن عبورك للجسر وحدك لا يعني موتك؟ وعبورك مع أشخاص لا يعني عدم الموت؟ وعدم عبورك للجسر لا يعني منه كذلك عدم الموت؟ فأجَلُ الإنسان غير معلوم والكيفية كذلك غير معلومة. ثم إن مجرد الإحساس بأن وجود أشخاص يساهم في إعطائك مساحة اطمئنان من "الموت" وفيما لا يستطيع بشرٌ دفعَه فهذا داخل في الشرك بالله والعياذ بالله..وأن إحساسك بنزول المصائب واحدك فهذا من جنس التطيّر. والله أعلم.

فلذلك كان الأصلح أن تتعامل مع الموت كما سبق بيانه لتزول عنك هذه الأوهام والوساوس وبذلك ينجلي عنك بإذن الله تعالى هذا المسمّى بـــ"الرّهاب=الوهم"، وتزدد أمنا واطمئنانًا وإيمانا...

والله تعالى أعلم.

هذا ما وفقني الله تعالى لكتابته فالمطلوب -فضلا- أن تقرأ هذه المقالة المبنية على تجارب طويلة جدا جدا مرارا وتكرارا، وحيثما أحسست أن حالك منطبق على بعض ما جاء فيها ناقش نفسك بكثرة كلما احتجت لذلك لاستيعاب الحقائق وتصفية الذهن وإعادة بناء القناعات  (التفكير السليم) بشكل مستمر، كأنك تعيد برمجة جهازك الحسي والعصبي في رؤية الأشياء على حقيقتها وطرد تلك الخيالات (التفكير المغلوط) التي ثبت في فكرك وأعصابك جراء التكرار السلبي وتراكم السنين.

وبفعلك ذلك ستنجح في مداومة العودة إلى الفطرة السليمة كما أرادك الله تعالى أن تكون، فإنها المفتاح نحو التخلص من الأوهام والمخاوف والوساوس التي كدّرت الفِطَر في توحيدها وسلامتها الطبعية. فتلك الأوهام والمخاوف "الرهاب" والوساوس حصلت جرّاء التأثيرات الخارجية : ربما من مسٍّ أو سحر أو عين، أو ربما حصلت كذلك من تطور علمي متسارع، وانقلاب موازين الصلاح والفساد والمنكر والمعروف، وانحراف الكثير عن الغاية من الوجود، وغياب القدوات الأخلاقية، وندرة الإعلام الهادف والصادق مما أدخل التوتر والقلق والعُسر إلى حياة العبد بسبب فصل نفسه عن معادلته المتزنة، وإدخالها في معادلة غيره أو وضعها في وسط غير مناسب للفطرة فاختل ذاك التوازن الكيميائي. فراح يسابق ضد الزمن ليحقق مقاييس مغلوطة وأهداف دنيوية محضة من صناعة بشرٍ همّهم الظهور على خارطة الشهرة والإنسانية "المزيفة" والرّقي والتقدم بقطع النظر عن الوسائل والأهداف والقِيَم والنتائج وإرضاء رب الخلق، فازداد بذلك التوتر والمخاوف مما يسمى بـ"المجهول" حتى اتسعت دائرة الخيال و"الرهاب" لتشمل كل شيء حتى صار العبد يخاف من ظلام بيته الذي يعرفه حق المعرفة دع عنك ما سواه.

والحمد لله رب العالمين.

 

 

---

(1) التفكير من الداخل إلى الخارج قاعدة فطرية رائعة استفدتها من كتاب: "التحفيز الفوري"؛ شانتال بيرنز.

تعليقات