الفرقُ بين رواية الثقة والحكم على القضايا

 استدلّ بعض أهل العلم ومن تبعهم على ذلك بأنَّ آية (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) وفي قراءة سبعية(فتثبتوا) نصّ في مشروعية (الجرح والتعديل) -عبارةً-، وأنّ (خبر الثقة) إنْ جاءَ فهو مقبولٌ -دلالةً-؛ أي بدلالة المفهوم.

فأودُّ مِنْ خلال هذه الأسطر تسليط الضوء على طريقةِ استدلالٍ أدّتْ ببعض الأوساط العلمية إلى تجريحِ وتبديعِ مَنْ قالَ مِن إخوانه بأنّ أساس علم (الجرح والتعديل) ليستْ منصوصةً في (الكتاب والسنة)، إذْ يُعدّ كغيره من العلوم الخدمية كعلم النحو وأصول التفسير وغيرها من العلوم الجليلة(1). ثم وللأسف تطور الأمر وعظُم الخطب -أي ظاهرة التراشق بالتجريح والتبديع المتهور والمتذبذب-حتى استَغلّه البعض لتحقيق مآرب سياسية (كما يقال) فعمّت الفوضى من كل جانب.

فدعنا نفترض أنّ قواعدَه منصوصة، فحتى لو كانت كذلك فإنَّ الخلافَ في مسائله لا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوالٍ أن يكون سببًا للهجر والتبديع والتضليل والطّعن في الأعراض بين المسلمين المؤمنين، ثم السماح بعد ذلك للمتسلقين اقتناص فرصهم الشخصية، بل لا يحسن بهم فعل ذلك مهما كانت منطلقاتهم ونياتهم؛ فأسْلافنا من الأئمة والعلماء وبالرّغم من أن المسائل العقائدية منصوصةٌ إلاّ أنهم اختلفوا في بعضها ولـَمْ نر منهم سوى العذر والاعتذار.
فلماذا -يا ترى- لا نأخذ -جميعنا- بفهمِ العلماءِ كما نأخذ سائرعلُومهم؟
فلوْ قال معترض: إنَّ الفَهْمَ اجتهاديٌّ
قلْنَا لَه: هذا دليلُك علَيك
فبالنّظر إلى (فهم وعمل) علماء (الجرح والتعديل) في (علم الرّواية)  نجدهم كانوا يردّون أخبار بعض الثّقات (العدول=غير الفاسقين) لمخالفتهم الجادة، وما اصطلاح (الشاذ والمنكر) إلا ضربٌ يعالج أوهام (غير الفاسقين) سواءٌ أكان الرّواي العدلُ ثقةً خالف من هو أوثق منه أمْ كانَ صدوقًا خالفَ ثقة، كلاهما لا يُعدّ فاسقًا إذ إنَّ لقبَ الصّدوقِ أوالثقةِ يخصُّ -فقطْ- جهة الحفظ والضبط لا جهةَ الدّيانة، كون العدالةِ شرطًا في قبول النظر في الحديث -أصالةً-.
ولْنعد -بعد هذه المقدمة- إلى الآية ولْنمعن النظرَ فيها مِنْ جهة العبارة والدّلالة:
فالآية -كما هو جليّ- نصّ قاطع في أنه: (لا بدّ أن نتثبتَ في خبر مَنْ عُلمَ فِسقُه) والعلة : (حتى لا نصيبَ قومًا بجهالة)؛ فتكون العاقبة: (النّدم على هذا الفعل).
ومن هنا أبدأ بطرح جملة من التساؤلات -وهو مقصود المقالة وبالله الاستعانة-:
أولاً: لو انتفت العلّةُ المنصوصة في خبر الفاسق فهل سنقبلُ حينئذٍ خبرَه؟
ثانيًا: لو أخذنا بمفهوم الآية بأن خبرَ الثّقةِ مقبولٌ بقطع النّظر عن وجود تلكم العلة فماذا نفعل بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: (البيّنة على المدّعي)؟ والّذي هو عام في الثّقات وغيرهم.
فهلْ نقول -دفعًا للاعتراض- بأنّ الآية قدْ خَصّصت الحديثَ، وعليه فإنَّ البينةَ لا تُطلبُ إلاّ من الفاسق؟
أوْ: نقول بأنَّ الحديثَ خاصّ في (باب الشهادة) والآية في (بابِ الرّواية)؟
فَلوسلَّمنا بالجوابِ الأوّل؛ نكون -بلا ريْبٍ- قدْ خَالفنا ما جاء في الأصولِ، والفاسقُ -عند الخصومة- قد تصدق -مع فسقِه- دعواه كما هو معلوم.
ولو قُلنا بالجواب الآخر بأنّ الآية هي منْ ( باب الرواية)، فكيف نفسّرُ عملَ علماءِ (الجَرح والتعديل) لمـّا رَدُّوا روايات العديد مِنَ (العدول)؟
والذي يُمْعِنُ ويُعْملُ النّظر -جيّدًا- فيما قدّمناه يجد أنه لا تعارض البتة بين (الآية و الحديث) وبين فهمِ وعملِ سلفنا الصالح-رحمهم الله تعالى- في باب (علم الرّواية) لو فرّقنا -فقط- بين باب (الرّواية والشّهادة) وبين باب (الحُكم).
إذ لا خلافَ بأنَّ الفاسقَ شهادتُه مردودةٌ بنصّ الكتاب قال تعالى: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك عند الله هم الفاسقون)، وأمّا روايته فيلزم فيها التثبّت مظنة ظلم الغير. وأمّا الحديث فهو خارج عن دائرة النّزاع إذْ هو خاص في باب الدعاوى والخصومات وهو إلى الشّهادة أقرب.
وأمّا العدْلُ فإنَّ روايته مقبولةٌ -على تفصيلٍ- وهي -بالجملة- على ثلاثةِ أقسامٍ: عدلٌ ضابط= محله الثقة، وعدلٌ خفيف الضبط= محلّه الصدق، وعدلٌ ضعيف الضبط= محله الضعف.
وعلماء (الجَرح والتعديل) لزِمُوا العدلَ في (الحكم) على مروياتهم منْ حيث الرّدُّ والقبولُ، فمن كان محله الثّقة أوالصَّدق فمروياته مقبولة -أصالة- إلاّ إذا خالفَ منْ هم أضبط منه أو مثله في الضبط. فالثقة يوازَن معَ من هو أوثق منه أو مثله، والصّدوق مع الثقة أو مع من هو مثله في الضبط، وأمّا الضعيف -وإن كان عدلاً- فرواياته غيرُ مقبولةٍ إلا إذا جاء ما يعضدها عنْ مثله أو أعلى منه ضبطًا.
فخبرُ العدلِ -بهذا التفصيل-لا يخرج -بالجملة- عنْ دائرة القَبول، وهو موافقٌ لمفهوم الآية السّابقة، وأمّا ما خرج عن ذلك فلا عبرةَ به؛ إذ الحُكْمُ الأغلبِيُّ هو المحَكَّم.
ثمّ -كذلك- لو أمعنّا النظر أكثر- في عمل العلماء في ردّهم لرواية العدول من الثقات بسبب المخالفات نجدهم لم يردُّوا أصلَ الرّوايات وإنّما بعض أوصافها؛ فرواية زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة رضي الله عنها-مثَلاً- جاءتْ عن ابنِ عباس بلفظ: (وهو حرام)، وأمّا عن ميمونةَ فبلفظ: (وهو حلال)؛ فالعلماء -في الواقع- قَبلوا أصل المسألة من الرّاوييْن والذي هو زواج النبي صلى الله عليه وسلم، و لكنّهم رجّحوا وصفًا آخر جاء في رواية أُمِّنَا ميمونة رضي الله تعالى عنها لأدلّة قويّة معروفة في مظانّها.
وهنا قدْ يسألُ سائلٌ ويقول:
أفلاَ يُعدّ -إذًا- ردُّ رواية العدْل -الضّعيف الضبط- مطلقًا كالشّديد الضّعف والمتروك الذِي لم يخالف غيرَه معارضًا لمفهوم الآية مِنْ جهةِ كونه عدْلاً؟ فلا أحدَ -مثلاً- يمكن أن يطعَن في عدالة حفص بن سليمان القارئ، كيف! وهو إمامٌ في القراءة -رضي الله تعالى عنه-؟ ومعَ ذلك فإنَّ رواياته في الحديثِ متروكة.
قلتُ: فهذَا السّؤال وغيره مِنَ الأسئلة التي قد تأتي -كلّما تعمّقنَا في التفاصيل- كمَنْ -مثلاً - يَردّ رواية (الثقة العدل) بسبب تبيّن ضعفه (عندَه)، والعكس بالعكس- تجرّنا إلى الحديث عن مسألة (إصدار الحكم) والذي هو -في الواقع-محلّ النزاع.
وهي تتّضح مِنْ واقع معرفة عَلَى أيِّ نوعِ تخرّجُ (صِيغُ الحكم)، كحكم القاضي على فلان بأنّه سارق، وحكم المحدِّثِ على الحديث بالضّعف أو بالصّحة، والحكم على فلانٍ بجَرحٍ أو تعديلٍ.
وبصيغة أخرى: هل (صيغ الحكمِ) على القضايا تخرَّجُ من باب (الرّواية والشّهادة) أم على أصل آخر؟
وهذا لا يمكن تحديده إلا إذا بحثنا في (نوعِ جُملهِ)، أهي من باب الخبرِ أم الإنشاء؟
فأبواب (الرواية والشهادة) تختص فقط بالجمل الإخبارية دون الإنشائية منها، فإذا ثبتَ بأنّ (صيغَ الأحكام) إنشائيةٌ فحينئذٍ سيكون الحكمُ على (مرويات الثّقات) أو على (الرّوَاة) مِنْ حيث الرّدُّ والقبولُ اجتهاديًّا خارجًا عنْ مفهوم الآية -ابتداءً-.
ومنطلقُنا لإثبات ذلك هو معرفة تصرّف ذلكم الفرع الذي لا بدّ من وجوده كلّما وُجد الحكمُ ألاَ وهو: المنفّذ للحُكْمِ.
فأنت تجدُ -على سبيل المثال- المخرِّجَ للأحاديث حينما ينقل حكْمـًا "ما" على حديثٍ "ما"  تجده يقولُ: (صحّحه الترمذيّ أو الألباني أو أحمد شاكر  أو غيرهم)؛ وتقديرُ كلامه: إنّ الترمذيَّ -أو الألبانيَّ أو أحمد شاكر- قدْ حكَم عليه بالضّعف، وهَا أنا أنفّذ حُكمَهما بنقْلِه. فلو غيّر هذا المخرِّجُ حكمَهما، فإنه 
سيُنشِيءحكمًا آخر للحديثِ ربّما يستعمله غيره.
فلوْ أسقطتَ تصرّف المنفِّذ للحكمِ على حكمِ القاضي أوحكم المجرّح فستجده لا يخرج عن هذه القاعدة إلاّ أنّ حكمَ القاضي إلزاميٌّ -كما هو معلوم-.
فيكون -بذلك- تَقديرُ كلامِ المحدِّث: (احكُم على هذا الحديثِ بالضّعفِ).
وكلام المجرّح أو المعدِّل: (احكُم على هذا الرجل بالفسق أو العدالة).
وكلام القاضي: (احكُم عليه بثبوت السرقة، أو بذلك القطع).
وعليه؛ فقدْ بات واضحًا بأنّ إصدارَ الأحكام (صيَغُها) طلبيّة إنشائية شأنها في ذلك شأن صيغ العقود منْ حيثُ الإيجاد. وهي -في حقيقة الأمر- لم تأت عبثًا بل إنّ أصحابَها نَظروا في الأسباب والحيثيات قبل النّطق بها وإصدارها.
وبما أنَّ مدارَك النّاس وأنظارهم متفاوتة فإنّ أحكامهم ستأتي تبعًا لذلك. فإذا عرفنا ذلك فإنّ وجودَ الخلاف في هذه المسائل باتَ أمرًا لا بدّ منه وهو ما لا يكذّبه الواقع. ومن يعترض على ذلك فإنّه كمن ينفي شيئًا معلومًا بالضرورة -عقلاً- وهو ضربٌ من السّفاهة.
فوجودُ العشرات بل المئات من المسائل في كتب (العلل) و(الرجال) و(التخريج) و(الفقه) المختلف في (أحكامها) لهو أوضح دليلٍ على ذلك.
والله تعالى أعلم.


والخلاصة:
- إنَّ إصدار الأحكام الجائرة على الناس الذي نشاهده في عصرنا والذي استغلها البعض لتمرير أجنداته الشخصية والسياسية لـم يكن سببه الخلاف في مسألة (خبر الثقة) كما يتوهّمه الكثير، وإنما هو في (الحكم الذي يصدر عن المعتبر بالثقة
)، والذي لا يتعدى كونه أمْرًا بإعطاءِ صفةٍ "ما" لقضية "مَا" مِنْ واقع جزئياتٍ اجتهدَ في جمعها ليصل بها إلى الحُكم الكلّي. 

- وأن هذا الصّنف مِنَ الجملِ خارجٌ عنْ أبواب الأخبار، وبذلك عنْ أبواب (الرّواية والشهادة)، لأنّ أبواب (الرواية والشهادة) -كما أشرنا سابقًا- لا تنطبق إلا على الجمل الإخبارية بينما (صيغ الأحكام) هي إنشائية 

- فلذلك فإنه بالإمكان ردّ (الحكم) باجتهادٍ يقابله(2).

 

وتبقى الإشارة  إلى أن ظلم الناس عواقبه وخيمة، وأن الظالم إذا لم يتب وينخلع من ظلمه -قبل فوات أوانه- فيرد الحقوق إلى أهلها فإن الله تعالى بالمرصاد وإن عاش هذا الظالم ظاهرا حياة طويلة سعيدة رغيدة:

قال تعالى (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار).

 

فاللهم تب علينا.

 

---------

(1) وأما صورُ جرحِ وتعديلِ الرّواة التطبيقية المبثوثة في كتب التراجم أو العلل التي كشفها الجهابذة القدماء فلا مجال فيها في نظري للاجتهاد -أي اختراع رأي جديد-، لأنها مبنية على أحوال تاريخية منقولة ممن عاصر الرواة والحفظ والرواية إلى أن وصلتنا الكتب، فلم يبق سوى الجمع والنظر المحدود.

(2) لكن الحاصل في واقعنا أنّ هذا المعتبر بـ"الثقة"-مهما يكن- الذي يصدر أحكامه المتذبذبة على دين وديانة الناس قد أُعطيَ صفة تفوق صفة البشر من تابعيه، فكذلك سائر الأطراف لديها شخصية "الثقة" التي يرفع الجميع لأجل شخصياتهم "الثقات" راية الولاء والبراء والحب والبغض؛ فلذلك ظهر التراشق وعمّت الفوضى وفشا التناقض في الأوساط العلمية وغيرها من الأوساط في مجتمعاتنا.

--------

نسخة معدلة.

 

تعليقات