الحلقة الأولى: توطئة (2) – الموت ليس نهاية وإنما بدايةُ طريق حتمية لحياة أبدية

قال تعالى:(كل نفس ذائقة الموت)..(إنك ميت وإنهم ميتون)..(خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)...

البعضُ من الناس لا يعي المعاني الحقيقية للسعادة والشقاء .. أو يعلمها لكنه يخفيها بزُخرفٍ مِن القول..بينما المسلم صاحب القلب السليم والعقل الصحيح، المتبع لنبيه المراقب لربه على دراية بذلك من واقع النصوص وأثر الشعور بالخوف من الله ولذة مناجاته ورجاء لقائه وإنْ عاشَ فقيرًا وضيعًا يردّه كبار النّاس وصغارهم وسفهاؤهم. والسّر في هذا الاطمئنان يكمُن في أنه يعيش مع ربِّه سعادة داخلية لا توصف؛ فهو على يقين أن ضيق عيشته في هذه الدّنيا الفانية –التي هي دار ابتلاء وامتحان- سينتهي وقت تسليم روحه لله تعالى لتبدأ سعادته الحقيقية الأبدية وحُرّيته المطلقة التي لا تنتهي، وهو على يقين -أيضًا- أن ذاك المجرم أو الظالم أو المتكبر أو المتعالم أو البخيل مهما ظن أنه سعيد أو تظاهر بذلك أو سعى إلى ذلك أو فاز بكل جوائز الدنيا كــــ(نوبل، وتصنيف فوربس، وأفضل شخصية مؤثرة أو إنسانية، أو أقوى إنسان أو أجمل إنسان، أو أسعد إنسان!!...) جَاعلًا إيّاها أهدافًا سامية، فإنّ سَعادته المزيفة ستتوقف حالما تخرج روحه كارهة لتبدأ تعاسته الأبدية إلى أن يشاء الله.

فلا تنفع وقتئذ لا أموال ولا معارف ولا سلطات ولا دول ولا عروش ولا أوسمة ولا رتب ولا شهادات ولا جوائز، ولا لباس ولا عمامة ولا سيارات ولا يخوت، ولا طائرات، ولا استتمارات، ولا علامات تجارية، ولا قوة جواز السفر ولا جنسية ولا لون ولا نسب ولا قبيلة إلا ما كان من ذلك لله تعالى؛ فإنّ ديننا لا يمنع التطور المادي ولا الفوز بالجوائز النّافعة كما يريد البعض تصوير ذلك -فتاريخنا المشرق حافل بمدارس علمية وعلماء مسلمين مبدعين في شتى العلوم والصناعات قبل ظهور الحضارة الغربية المتطفلة والوهمية-؛ فديننا الإسلام هو إطار حياة ومنهج نجاة كامل متكامل صالح في كل الأمكنة والأزمنة، وهو أساس الاستقرار والتطور العادل والأنيق الذي يضمن كذلك الاستدامة السليمة والنافعة. وكَمَا لا ينفع أيضًا رضا قوى الغرب و لا الشرق ولا الرقص ولا الغناء ولا التمثيل الفاسد وغير ذلك، فالقائمة طويلة جدًّا ذَكرتُ بعضَ تفاصيلها لأننا لا زلنا نرى من المسلمين من يفتخر -للأسف- بذلك وينظُر إلى تلك الأشياء ظلمًا وعدوانا؛ حتى وَضعها الكثيرون ضمن مؤشرات الريادة والسعادة والصّلاح والشّهرة...مع أنَّ الجميع يعلم أنه لا شيء من ذلك نافعٌ العبدَ إلا ما كان لله خَالصًا صالحًا، وأنّ الكلّ على عِلْمٍ أنّه لَا يوجد مَن يموت قويّا أو غَنيّا؛ فلا أحد لحظة خروجه من دنياه يملِك شيئًا مما أوتي إلا صحيفة أعماله، وإلا لما تعاقبت أجيال ودول وموازين قوى...الواحدة تلو الأخرى..قال تعالى (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)..

ومن العجيب كذلك أنّ بعض المسلمين صارت لديه ثقافة الغرب في تحقيق أحلام الموتى..فالبعض عندما يحقق تطورًا معينا أو هدفًا مَا يقول: "تحقق حلم فلان" "الذي هو ميت"..اعتقادًا منه أن الميت لا يزال مستمتعًا بالدنيا، مُستمعًا إلى جديدِ أخبارها، وأنّ فريقه لا يزال يحصد الجوائز والألقاب، أو أن المؤسسة في تطور مستمر، أو أنّ الجنسية في صعود دائم، أو أنّ الجواز السفر في المراتب الأولى، أو أنّ عَلَمَ فريقه لا يزال يرفرف.. وغير ذلك ..فكل ذلك أحلام دنيوية مظلمة لا خطام لها ولا زمام؛ فهي من تبعات الثقافات المستوردة..وهو بظني لا يعدو أن يكون مجرد تفكير مؤسسي أو أحلام مؤسسية كما أسميها. وتوضيح ذلك أن حياة المؤسسات من أعلام ودول وعروش وفِرق وما شابه ذلك قد تدوم المئات من السنين، لكنَّ العبدَ -منفردًا- حياته أقصر من ذلك بكثير جدا، وفُرص أعماله الفردية تتوقف حال موته، ثم يُحشر منفردا عن تلك المؤسسات المادية التي كان يعمل لأجلها، بل ربما مَاتَ وهو يفتخر بها افتخار الجاهلية، أو ماتَ وهو لا يزال يحلم بكؤوس وتتويجٍ وزعامة وقوة وسلطة وثراء مؤسسي وهميّ، فلن تدافع عنه هذه المؤسسات التي كان يدافع عنها لأن الله تعالى سيحاسب الأفراد فردًا فردًا؛ قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ). والمقصود أنَّ على الفرد عدم الانخداع بالدنيا والاغترار بها؛ ثمّ يتعامل معها على أنه لن يموت أبدًا أو أنه سيعيش مئات السنين كالمؤسسات، أو لا يوجد من سيحاسبه بعد موته كما هو لسان حال الكثير من المسلمين اليوم، مَع أنّ الموت حق وحقيقة يراها العبد في كل لحظة من لحظات حياته؛ أَوَلَا ترى كيف أنَّ الأحداثَ تُعاد على ذات المؤسسات والفرق والمجتمعات والدّول وغير ذلك ولكنْ..على أشخاص مختلفين...؟! فلا ينبغي للعبد فعل ذلك، ولا أن ينخدع بمثل هذا التفكير "المؤسّسي"، فعليه قبلَ كلَّ شيء النَّظر إلى نفسه وحدود مسؤولياته متصوّرًا –وهو يؤدي واجباته وأعماله- وقوفَه منفردًا أمام الله تعالى يسأله عن أعماله ومدى تأثيرها على مَن حوله سلبًا أو إيجابًا قال تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)...، فإذا صَلُح الفرد واجتهد في إصلاح نفسه فإنّ تفكيره سيكون صالحا وأعماله -بالتّبَعِ- ستكون نافعة لنفسه وللجماعة؛ أيْ كلّ مَنْ هُمْ ضِمنَ حدودِ مَسؤولياته أُسَرًا ومجتمَعاتٍ ومنظوماتٍ وما شابه ذلك. وهذا هو الفارق بين التفكير المؤسّسي المحض والتّفكير الجَماعي، فالأوّل لا يهمه سوى المؤسّسة بقطع النظر عن صلاحها وصلاح أفرادها، بينما التفكير الجماعيّ يَهْتمّ بصلاح الفرد والجماعة؛ فصلاح الأفراد مِن صلاح المجتمعات وصلاح أيّ عمل جماعي، والعكس بالعكس.

ثم ليعلم العبدُ علم اليقين أنّ الموت هو لحظة الحقيقة المطلقة التي ستظهر بأكملها منذ الخلق إلى يوم القيامة..حقيقة أعماله وحقيقة الاختلافات وحقيقة المخطّطات، ومآل الدّول كبيرة كانت أم صغيرة، ومآل الظلمة والجبابرة، وعاقبة المؤمنين بالله المحسنين المتقين، وجزاء المظلومين المستضعفين وغير ذلك..فإنها لحظة الحقيقة المطلقة التي تمس الماضي والحاضر والمستقبل..

قال تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

..

فإمّا ندم وحسرة وخسران..

قال تعالى ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون)، (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)، (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ(..و(قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ) و(يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)..

أو سرور وسعادة وفوز..

قال تعالى (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ،  الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)، (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ)، (إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)..

ولينتبه المسلم أن حياته الدّنيا ليست فِلْمًا هوليوديا يُدار من مخرجين وممثلين كاذبين كما يصورها البعض، بل هي حياة حقيقية مصيرية قصيرة لحياة أبدية ستكون إمّا سعيدة أو شقيّة...فَإن خسارة الدنيا والآخرة –كما قلت سابقًا- من الأمور التي لا تقبل فرصة ثانية.. قال تعالى(حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)..

فَلْنفهم ذلك!

تعليقات