فُرَصٌ استثمارية إصْلاحية في زمن (البلادة) - المقدمة

الحمدُ لله رب العاملين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد؛ فلعلك تتساءل عن غرابة العنوان وما موقع (البلادة) من الإعراب... إنْ كَانَ كذلك فمَا عليك سِوى مواصلة القراءة ليتضح لك المقصود.

ففي هذه السّلسلة سأستعرض بإذن الله تعالى غالبَ ما نشاهده في زماننا من سلوكيات تجعلك تتساءل: هل صارتْ لدينا أهداف أخرى غير التي خُلقنا لأجلها..؟! هل حقق الغرب ومن عاونهم أطماعهم في إبعاد المسلمين عن التمسّك بدينهم؟! فسَترى على سبيل المثال أنّ العديد من مجتمعاتنا المسلمة لا تزال أو صارتْ تؤمن بخرافات جديدة خادشة للتوحيد جاءتْ من الغرب المهزوم، بل بَعضها يصادم الشريعة، بل سترى أنّ الأمر أفظع من ذلك كُلّمَا تتوغل في الحلقاتِ.

وليس الغرضُ مِن إظهار هذه المشاهدات بشكل مباشرٍ حُبَّ الانتقاد، فأنَا جزء من هذا المجتمع المسلم، وقد عاينتُ من واقع خبرتي الكثير من ذلك؛ فغرضي مِن إظهارها بيانُ الهوة الكبيرة التي بين أقوالنا وأفعالنا وبين ادعاءاتنا وحقائقنا، فلعلها توقظنا من غفلتنا ونسارع قدر المستطاع في إصلاح أنفسنا؛ فإنَّ من طبيعة الإنسان حينما يرى قائمة أفعاله وأقواله أمام عينيه قد تتحرك لديه مشاعر التأنيب، وقد توقظ ضميره ليسارع في الإصلاح والعودة إلى الفطرة السليمة؛ فلذلك سمّيتها بــ(فُرص استثمارية) لنغتنمها ونحللها ونبادر بالتصحيح والإصلاح، فلن تجد أفضلَ مِن رأس مالٍ للعبدِ المسلم كالأعمال الصالحة.

وأنتَ تقرأ وتتأمّل سَتجد أنّ بعضَ هذه المشاهدات منتشرة في كلِّ المجتمعات المسلمة، وأخرى اجتمعتْ فيها العديد منها في آن واحدٍ، وأكثرها ستجدها متعلقة بالتعامل مع الغير غافلين عن حقيقة أنّ من كمال إيمان العبد حبّه الخيرَ لأخيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه)، وهذا الأمر لا يتحقق عَمَليًّا حتى يضعَ العبدُ صورتَه وصورةَ من يُحِبُّ مَكَانَ غيره من المبتلين والمعوزين والضعفاء والمستضعفين وذوي الحاجات والحقوق -أغنياء كانوا أم فقراء- ليشعرَ بشعورههم، فتتحرّكَ الجوراح في الاتجاه السليم قبل صدور الأفعال. فلقد ثَبَتَ عَمَلِيًّا أنَّ الكلامَ النظري لم يعد نافعًا في زمن أسميه: زمن "البلادة"، ليس كما يقال زمن "الريادة"، لأنّ الريادة الحقيقية -في نظري- هي القدوة الحسنة والقيادة بالامْتِثَال، لِلتّمَكّنِ مِن صناعةِ جيلِ قادة وقيادة جيلِ صِناعة. وإلا فإنّه بانعدام القيادة الحقيقية الممتثلة تنعدم معها الريادة النّافعة والتغيير الإيجابي النّافع فلا تبقى إلا المصطلحات الزائفة والمظاهر الزائغة.

 

لماذا أقول ذلك؟!..

 

...حينما تقرأ بكل حيادية هذه الأخلاقيات وتنزلها على واقعك -كفرد- وعلى واقعنا -كمجتمع- ستتأكد من صحة وجهة نظري وَلماذا وَصفت هذا الزمن بزمنٍ "البلادة" مع كامل الاحترام للجميع. بل لعلك ستزداد يقينًا بوجودِ حروبٍ مسعورة على الإسلام والمسلمين والناصحين تُنَفّذُ منذ زمن بطرُق ممنهجة لإبعاد المسلمين عن كتابهم وعن أهدافهم التي خلقوا لأجلها، ليَظَلّوا ضعفاء مستضعفين، ويتمكن أعداء الدين ومن عاونهم من نشر قناعة بأنّ مستوى التّطور والتّمسك بالدين مرتبطان ارتباطًا عكسيّا(؟!!)

فمهما كنتَ...اقرأ واسأل نفسك.

...

 وليس غرضي مِن هذَا العرض تحليلَ المسائل وحشد أدلتها ([1])صيانةً للغرض الأسمى لهذه (الفرص الاستثمارية)؛ لذا جاءت على شكل مقتطفات وتنبيهات مختصرة بعضها اتخذتْ شكل حلقات قصيرة جدّا لتسهيل القراءة والتركيز لأهمّيتها. وقد أفترضُ بعض الأشياء من باب الجدل لأبيّن المقصود. فكما سترى أنها مشاهدات لا تحتاج إلى دليل مادي، فيكفي النظر إلى آثار المخَالَفَات ومخلّفاتها الظاهرة التي حدثتْ معي كما حدثت مع الملايين من غيري ولا تزال تحدث في غياب إعادة تفعيل الدور الحقيقي للمساجد والعلماء والمدارس والمؤسسات التربوية والأكاديمية وذوي الاختصاص، وفي غياب الضمير المهني الإنساني الذي يفرض على الإنسان مراعاة أخيه الإنسان الذي يشاركه الأرض والمصير والطبيعة البشرية؛ فكيف لو كان هذا الإنسان المقصود بهذا الكلام "مسلمًا"  الذي عنه وإليه أكتب.

وبما أنّ الأمرَ له تعلّق بإصلاح النّفوس فإني لا أستثني نفسي من ذلك؛ فكلّ ما أكتبه أحسبه داخل في باب النصح الشَّرعي لنَفْسي ولمجتمعٍ مُسلمٍ أنتمي إليه ولأمَّة مسلمة أنتمي إليها كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية -وغيره ([2])-حنيما ألَّفُوا كتبهم التي نُشرت –وبِيعتْ- لمعالجة ظواهر عصورهم بكل حيادية وعَلنية وشفافية. فجاءتْ هذه السلسلة من جِنْسِ هذا الباب بمظهر واقعي، تُظهر الأحوال التطبيقية كما شاهدتها وشاهدَها الكثيرون؛ فالكل يحسن الأمور النظرية التي باتت معلومة لدى الجميع، فلعلّ ببيان الأمثلة الواقعية -الناتجة عن عدم تطبيق تلك القواعد والنظريات- ..لعلّها تقرب المفاهيم إلى العقول فلا يبقى بعد ذلك لمفسد مفر ولا لمرتاب عذر. فإنّي إذْ أفعل ذلك لا أجدُ ضررًا أن يتكلّم الإنسان فيمَا يُعاينُه ويُعانِي مِنه من باب المشاركة والتَّذكير والسّؤال لأهمية الأمر؛ فالشرعُ والقانونُ الإنساني –الذي يُقسم بالله العظيم كلُّ ذي مسؤولية على احترامهما وتطبيقهما على نفسه قبل غيره! يَكفلان للإنسان إبداء رأيه أو عرض سؤاله في أي مسألة أشْكَلَتْ عليه أو عَطّلتْ مِنْ أَداء وظائفه الفطرية، فهذه طبيعة بشرية لا يمكن إلغاؤها أو تجاهلها أو مصادرتها؛ ألا ترى كيف أنّ بعض الصحابة سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ذات الله تعالى نفسه -وهو رب العزة-؟ ومع ذلك لم يعنفهم أحد! فَهذا مثال من عشرات الأمثلة مِن الهدي النبوي الشريف في السّماع للنّاس وعدم تجاهل مَا يهمّهم.

والمقصود أنَّ السؤال من الرعية والجواب من الراعي -من علماء وأمراء ومن قام مقامهم- لـَم يزالا مستمريْن منذ زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصحابته؛ فالله تعالى خَلق للإنسان عقلا كي يفكر ويميّز به ولسانا كي يتكلم به؛ قال تعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، (أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ، أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ)، فهل يُعقل بعد ذلك أن يأتي أفراد من جملة البشر يملكون ذات العقول وذات الألسن والأسماع يتكلمون ويفكرون ويحكمون على غيرهم كما يشاؤون بل الكثير منهم يتلاعب بمشاعر الناس وطبائعهم ومعايشهم وثوابتهم، وبالمقابل يمنعون غيرهم مجرّدَ السّؤال أو طلب مساعدةٍ أو شكايةٍ في شؤونٍ تمسّهم بشكل مباشر وتمسّ دينهم ومعتقداتهم وثوابتهم؟.. معتبرين ذلك من الخطوط الحمراء المطلقة والتي لا يجوز تجاوزها -مهما كانت الدواعي- مع أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد استفسار أو سؤال أو مساءلة طبيعية فطرية بشرية شرعية...!! فليس يوجد خطّ أحمر يمنع الإنسان مِن التّكلّم  -بحسب حاله وعلمه وثقافته وبيئته- وبكلِّ اتّزانٍ- فيمَا يمسّ شؤونه ويعطل عليه مسار حياته، وفي مقابلة ذلك ليس على المستمع  المختص والمعنيِّ سوى التفاعل والاتزان والإحساس بالمسؤولية العامة والخاصة لتردَّ الأمورُ إلى نصابها بالتي هي أحسن للتي هي أقوم. ولنا في سيرة النبّي صلى االله عليه وسلّم إسوة حسنة في التعامل مع الناس بمختلف طبائعهم القاسية منها والمرنة، ومختلف توجهاتهم الثقافية والدّينية، فلم يكن منه صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء إلا استعمال الرحمة والصبر والتوجيه السّديد والدعوة إلى الحنيفية السمحاء...وهكذا سار صحابته من بعده بكلّ حِكمة وصدقٍ واتزان تحقيقًا لمقتضايات كلمة التوحيد كما تعلموها من نبيِّهم وقائدهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ فأسَّسُوا –بالرحمة والعلم والشجاعة والنبل والإخلاص والحزم- دَولة الإسلام قوية متطورة بما يليق بذلك الزمان، يعتّز أيّ فرد الانتماء إليها والعيش في ظلالها.

وخلاصة الكلام؛ ليس من المشروع تحريم السّؤال أو المساءلة –بشكل مطلق- ولا تجريم شيءٍ مِن ذلك ولا الدّعوة إلى تجاهل سماع الآراء لِدَواعٍ شخصية أو أطماعٍ غير مشروعة؛ فذلك كُلّه –أي هذا الشّكل من المنع بالنّحو المطلق والأَبدَي - لا يقول به أحد سوى مَن ركبه الهوى الفاسد. فكما أنّ صوتَ المفسدِ صار مسموعًا ويُتْركُ بكلّ حرية يصول ويجول لنشر ظلمه وفساده وشذوذه فينبغي كذلك ومن باب إقامة العدل الاستماع إلى استفسارات ودعوات الطرف المصلِح أو المتأثِّر حتى تتوازن حياة النّاس ويميزوا بين الخبيث والطيب؛ فلذلك كانت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور الواجبة والتي عليها مدار إقامة الدين وتحقيق العبودية الحقة لله تعالى واستقرار المجتمعات واستمرارية ازدهارها.

لذا -واقتداء بسُنّتهِ صلى الله عليه وسلم- ينبغي عَلَى كلّ ذي مسؤولية معيّنة –كائنا من كان-بَرًّا بقَسَمه الذي أَدّاه أثناء تحمّله المسؤولية- أن يوفّرَ قنوات السَّماع الواضحة والمناسبة لجميع الناس بمختلف أصنافهم وطبائعهم ليتمكن من سماع حوائجهم وتساؤلاتهم وآرائهم ويناقشهم ويتعامل معهم بكل عدل ورحمة وصبر وشفافية، فهذا هو سبيل تحقيق التوازن والتراحم والتآلف والاستقرار والتّطور السّليم والمستمرّ؛ وهو كذلك ثمن تحمّل المسؤوليات، بل ثمنها -كما نراه في زمننا- مدفوع مِن رواتب ومكانة وحصانة وغير ذلك من الامتيازات الكثيرة والكبيرة. فالمسؤولية كما هو معلوم -فطرةً وعقلًا وشرعًا- ليستْ مُلكًا ولا متاعًا يباع ويشترى ولا الرعية عبيدًا يعاملون معاملة الأثاث، بل المسؤولية وظيفة  كغيرها من الوظائف وإن سُمّيت سلطنة أو مملكة أو إمارة أو دولة أو جمهورية أو ولايات أو اتحاد أو فدرالية أو إدارة فلا فرق، وإن سُمِّي المسؤول رئيسا أو وزيرا أو مَلكا أو أميرا أو سلطانا أو شيخا أو مديرًا أو فريقا أو رُكنا أو عميدا أو جنرالا أو باشا أو غير ذلك فكلها أسماء تخضع للتقنين بما لا يخالف الشرع، ومسمّيات تخضع للمساءلة والتقييم كأي عمل بشريٍّ ولا سيما المتعلق بحياة الناس. يقول ابن تيمية في "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية (ص 11) :" الخلق عباد الله، والولاة نواب الله على عباده وهم وكلاء العباد على نفوسهم"...وقال (ص26):"وليس لولاة الأمور أن يقسموها بحسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء ليسوا ملاكا "؛ ألا ترى أن كل هذه الألقاب يتقاضى أصحابها أجورا وحصانة ومكانة وامتيازات لأجلها، وأنها تنزع منهم –أي هذه الألقاب والامتيازات- مع خروج الروح من الأجساد الضعيفة أو ربما في حياتهم..؟!

...

فَمِنْ هذا الباب فقط أكتب...

فَإلى الحلقة الأولى؛ والتي هي توطئة من ثلاثة عناصر لتذكير أنفسنا قبل المضي في المشاهدات والفرص الاستثمارية للإصلاح.



([1] ) فمن يعلم الأحكام الشرعية لهذه المشاهدات من أدلتها، ويميز بين الحلال والحرام فليعمل وليصحح، ومن يخفيها ويقلبها كما هي عادة بعض الأصناف في صناعتهم الكذبَ فلا شأن لي بهم، فستكون هذه المشاهدات بإذنه تعالى شاهدة عليهم يوم نقف جميعا أمام رب العباد حفاة عراة كما خلقنا أول مرة لا نحمل معنا سوى صحائف أعمالنا. فلا فائدة من العجلة؛ قال تعالى (وفي السماء رزقكم وما توعدون).

([2] ) من ذلك: (بذل النصائح الشرعية فيما على السلطان وولاة الأمور وسائر الرعية) لمحب الدين الشافعي، (الأحكام السلطانية) للماوردي، (الأحكام السلطانية) لأبي يعلى الفراء، (رسل الملوك ومن يصلح للرسالة والسفارة) لأبي يعلى الفراء، (النصيحة للراعي والرعية) للتبريزي، وغيرها كثير كثير في الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليحاربوا أي فساد في الاعتقاد والأعمال –مما وقع في زمانهم- سواء من حاكم أو محكوم، لأنهم فقهوا أنّ ديننا لم يفرّق، وأن النصيحة من الجميع للجميع فجاءتْ كتبهم تعالج واقع أزمنتهم بكل اتزان وصدق وشفافية؛ فماذا سنقول عنهم لو استعملنا منطق فلاسفة أهل هذا الزمان؟!

تعليقات