احذروا خدعة خطاب "الكراهية"

احذروا خدعة خطاب "الكراهية"!

 

إنَّنَا معاشر المسلمين حينَما نتكلّم في مسألةٍ مَا فإنّنا لا نفعل ذلك كوننا بشرًا أو مِن بابِ الإنسانية فحسب، وإنما نعملُ كوننا مسلمين أيضًا حتّى تكون حياتنا وأعمالنا كلُّها مستقيمةً خالصة لله تعالى؛ فنحبُّ ما يحبّه اللهُ ورسولُه، ونبغضُ مَا يبغضه اللهُ ورسولُه، ونوالي مَن يُوالي اللهَ ورسولَه، ونُعادي مَن يُعادي اللهَ ورسولَه؛ ومَنْ كان عدوًّا لله ولرسولِه فَهو عدوّ لَنا وإن حاول إظهار الوُدّ والحبّ والإيخاء، ومَنْ يحاربُ المسلمين –من الكُفّارِ- وينتهك حرماتهم ويخرجهم مِن ديارهم في أي بقعة كانت فإنّه يُعدّ في نظر المسلمين -جميعًا- حَربِيًّا معتدِيًا وجَبَ اتخاذه عَدُوًّا، وتلزم المسلمين النّصرةُ. فهذا هو ميزان الحبّ والبغض لَدى المسلم، فهو مرتبط ارتباطا كُلّيًّا بطاعة الله ورسوله (قُلۡ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡكَـٰفِرِینَ)، وقال تعالى (مَن كَانَ عَدُوࣰّا لِّلَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبۡرِیلَ وَمِیكَىٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوࣱّ لِّلۡكَـٰفِرِینَ) والآيات في بيان الحبّ والبغض، والولاء والبراء، والمحبة والعداوة، وكيفية التعامل مع الكُفّار والمشركين كثيرة جدًّا. وَها هم الصّحابة يسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم: الرَّجلُ يُقاتِلٌ حميَّةً ويُقاتِلُ شجاعةً ويُقاتِلُ رياءً أيُّ ذلك في سبيلِ اللهِ ؟ فقال: ( مَن قاتَل لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا فهو في سبيلِ اللهِ ). فالنصوص في هذه المسائل متوافرة، ومعانيها واضحة لا لبس فيها إلَّا مَن جَرفته تيّارات العولمة، وتأثّر فكره بثقافةِ وتوجّهِ النظام العالمي الجدِيد. وإنّنا حينَما نتكلم في هذا المقام عن الحبّ والبغض فليسَ القصدُ ذاك الحبَّ الطبيعي أو الكره الطبيعي، فهذا النوع من الحب أو البغض خارج عن هذه المسألة؛ فَقد يجتمع في قَلب المسلم بُغضٌ شرعي وحبّا طبيعيًّا. واجتماع هذين الأمرين في قلب المسلم يدلّك على أن وجود البغضِ الشّرعي -والعداوةِ الشّرعية- أو وصف الكفر لا يلزم منه وجود المقاتلة لأن الغرض الأساس هو التميّز –طاعةً لله ورسوله- لإظهار الحق وإمكان اتباعه، ودحض الباطل واجتنابه.

فالَّذِين يريدون أن يُوهموا المسلمين أنَّ في خطابِ الشّرع "الكراهية المطلقة" هكذا بدون أيّ ميزان أو بيانٍ فَلَيس غرضهم سِوى إلقاء المزيد من الافتراءات والضغوط النّفسية على المسلمين في مواصلةٍ منهم مسيرةَ التشكيك في دينهم؛ لِيَفُكّوا ارتباطهم به شيئًا فشيئًا، ومن ثمّ يتحوّل هذا الدّين الحنيف من أعمال ظاهرة ومؤثّرة في صلاح الفرد والمجتمع والعالمِ إلى مجرّد حركات ورموز وكلام لا يتعدى أوراق الكتب وجدران المساجد، فينحرف بذلك المسلمُ عن رسالته الدّعوية، ويخسَر آخرتَه الموعود بها. وليس غريبًا على أهل الباطل وأعداء الحقّ قيامهم بتشويه الحقّ وازدراء أصحابه فهذا دأبهم منذ القدم، فقد فعلوا ذلك مع الأنبياء ومَن بعدهم، وسيستمرّ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وإلَّا فإنّ "الكراهية" لدى أعداء الإسلام متجَذّرة ومتجدّدة، وظاهرة في أبشع أثوابها. ومن يُريد معرفة حقائق المصطلحات فلينظر إلى أثر الأفعال؛ وها هي أفعالهم أثبتَت -ولا تزال تثبت- أن الرّمي بــ"الكراهية" عندهم يظهر حينما يُحارَبُ استعلاؤهم وباطلُهم واستعبادُهم النّاسَ، وأنّ "الحبَّ" في نظرهم هو أن تعيش تحت أقدامهم؛ تخدم مصالحهم وتساهم في تنفيذ مخططاتهم الاستعمارية والاستعلائية، ونشر أفكارهم الخبيثة وعقائدهم الباطلة وثقافاتهم الهدامة التي ربطوها بشكل أو بآخر بالتّطور والرّيادة والتنمية كشروطٍ يصطادون بها الضعفاء واليائسين مِن أيّ جنسٍ كانوا.

والمقصودُ أنّهم لما رأوا في المسلمين ثغراتٍ يَلِجون من خلالها -لإضعافِ تمسّكهم بدينهم الحقّ- راحوا يضغطون عليهم بقوانينهم ومنظماتهم التي تعنى -زعموا- بالحفاظ على السلام والاقتصاد والرياضة وحقوق الإنسان والحيوان والطفل والمرأة والبيئة زاعمين أنَّ الأوصاف الشرعية التي في ديننا الحنيف وأحكامُه الحكيمة تصادم الرّقيّ وتوجهات النظام العالمي المعاصر الانفتاحية والريادية، فيصفون مَن يتمسّك بالأحكام الشّرعية بأنَّ في خطابه "كراهية" وذلك لِغرض تنفير المسلمين مِنْ مجرد سماعهم كلمةَ "الكراهية"، فتُفتح لهم –بذلك- الأبواب لإدخال بعض الحريات اللامحدودة المؤْذية، والمؤَدِّية إلى الشذوذ والانحلال والانقلاب على الفطرة والقيم والثوابت مِن خلال المطالبة بتجديد الخطاب (=أيْ تحريف المفاهيم) كوصْفِ "الكفر" و"الكفار" و"الجهاد" و"القتال"، والآيات التي تتكلم عن الكفر والإيمان والمقاتلة واللعن والولاء والبراء والأخوة الإيمانية والرّدة والحدُود والمواريث والإشهاد والحجاب والضّرب التأدِيبي، وقوامة الرجل، والترابط الأسري، والفتوحات وغير ذلك. ولنوضّح أكثر فإنَّ أعداءَ الإسلام يريدون من المسلمين –على سبيل التمثيل- ألا ينعتوهم بـــ"الكُفار" وإنما بــ"غير المسلمين"، يريدونهم، بل يدفعونهم لحذف مثل هذه الأوصاف مِن الكتبِ أو تحريف معانيها أو تضعيف مصادرها في السّنّة مثلما يُفعل في كل مرة -ومع كل محاولة تشكيك أو تحريف- بصحيحي "البخاري" و"مسلم"، وكلّ ذلك –بحسب قولهم!- مِن بَاب تحقيق "التنوع والشمولية(!)" و"الأخوة الإنسانية(!)" و"محاربة الإرهاب الدّيني(!)" و"التقارب الديني(!)" و"التعايش(=الاندماج!) السّلمي"، ولـِمَ لَا! تبادل التّجارب الدّينية حتى يتم لهم ذاك التناغم، وتتمَّ لهم المحبّة "الزائفة" طالما القاسم المشترك الذي يجمع الناس هي "الإنسانية

وكي لا أُفهم بغير ما أقصد، فإنَّ كلمة "غير المسلمين" بحدّ ذاتها لا إشكال في استعمالها فيما لو استُعملت ضمن سياقها مع الحفاظ على الفارقِ والتّميّز كُلَّمَا لَزِم الأمر. ولكنّنا – وبالنظر إلى الوقائع والحقائق- نعلم أنَّ هذه العبارة صارتْ لها أبعادٌ أخرى غير ظاهرها؛ فغرض النظام العالمي الجديد ودعاة الانحلال و"الإنسانية" هو التقريب والتهوين وإزالة تميّز المسلم عن غيرهِ، وتمييع دين الحق، وتقديم "الإنسانية" على أي رابطة أخرى، وتحويلها إلى أرضية مشتركة بينَ الجميع بقَطع النظر عن معتقد الشخص ولو كان مُسلمًا. وهذا الاجتماع المشار إليه لا يتأتَّى إلَّا بتقديم تنازلاتٍ -من جانب واحدٍ- عند أيِّ عائق يحول دون الاجتماع حول هذا المعبود الجديد: "الإنسانية"! وقلتُ "تنازلات من جانب واحدٍ" لأنهم يريدون الاجتماع حول "الإنسانية" وَفق أهوائهم وثقافاتهم الشّاذة وعقائدهم الباطلة ومخططاتهم الاستعمارية المدمّرة. فهذا هو محل النزاع الحقيقي حول استعمال هذا اللفظ لا اللفظ ذاته!! وإلّا فلا حرج من قولك هذا "مسلم" وذاك "غير مسلم"!!

ونقول لهم ولمن وافقهم؛ لماذا اخترتم الاجتماع حول الإنسانية وفق مفاهيمكم وثقافاتكم؟! فلم لا نجتمع حول "الإنسانية" ونجمعها وَفق شريعة الإسلام الكاملة والمصلحة؛ ففيها الخير كله للإنسانية جمعاء؟...فَمَن يرفض هذه الدّعوة فقد أفصح لنا عن مشكلته بأنها مع "الإسلام" وليسَ "الإنسانية"!!

ثمّ إنّه ليس صعبًا عليكَ أن تعلمَ أنّ أعداء الإسلام لا تهمّهم هذه "الإنسانية" حينما يتعاملون مع مخالفيهم -سواء كانوا مسلمين أو لا-، فالذِي يهُمّهم هو الوصول –بكلِّ خبث ومكرٍ- إلى مآربهم الاستعبادية والاستعمارية، فانظر فقط إلى آثار أفعالهم عند تضارب المصالح، فإنّك ستجدهم  -وللدفاع عن ثوابتهم العقائدية والعرقية والاستعمارية والتوسّعية- يـُمَيِّزُون ويتمَيَّزون عن غيرهم، وينظرون بعين واحدة، ويزنون بميزان ذي كفة واحدة، واضعين تلك الشعارات –جميعها- وراء ظهورهم حتى يتمّ لهم الأمر، ثم بعد انتصارهم يعاودون الكَرّة بِرَفعِ ذات الشعارات، ودَفع المساعدات، وإسالة الدموع بعدمَا يخَلّفون الوَيلات، وينهبون الثروات. وصفحات تاريخهم الأسود، وأفعالهم الشنيعة لا تزال شاهدة على كذبهم وافترائهم وخبثهم إلى يومنا هذا!!! فالتاريخ لا يعيدُ نفسه إلا مع كلّ مَن لا يتعلم مِن دروسه!

والمقصود أنهم: بهكَذا مُصطلحات ومنظماتٍ ظاهرها شفقةٌ وأخوةٌ وحبٌّ، وباطنها خبثٌ وجبروت وكره؛ وبهكذا منظور متقلبٍ وعاجزٍ وشاذٍّ يريدون فرض مفاهيمهم المادية وثقافاتهم الشاذة على المسلمين أصحاب الحقّ الأوحد! فضلا عن أن المكر هو ديدنهم أينما اتجهوا! فهم لا يتنازلون لمخالفيهم ولا للمسلمين قيد أنملة، بينما يريدون من المسلم أن ينخلع عن توحيده وأخلاقه وطهارته وإيمانه ودعوته، وأن يحيد عن هدفه الأسمى من الخلق. يُصَوّرون للمسلمين أن الحياةَ قصةٌ عاطفية، أين في نهايتها -وبعد أحداث درامية- يلتقي الشابّ والشابة ثم يتزوجان بسلام وينجبان البنين والبنات ويعيشان في أمان!! "وانتهت القصة"!! فهذا كله كذبٌ وافتراء واغترار، فحياة الإنسان -ولاسيما حياة المسلم- ليستْ لعبة، ولا قِصة تنتهي عند ذلك، فالمسلم المؤمن الصّادق مهما عاش ومهما كانت ظروفه وأوضاعه ومكانته فهو يُؤَدّي رسالة إيمانية دعوية لتحقيق التّوحيد وعبادة الله تعالى على مراده سبحانه ومرادِ نبيّه صلى الله عليه وسلم، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد.

 فأعداء الإسلام كي يتحقق لهم ذاك "التعايش" و"الإيخاء و"الحب الإنساني" و"المساواة" وما إلى ذلك، وَصَفُوا –كما قلنا- بعضَ النّصوص الشرعية على أنَّها تحمل "الكراهية" "لهم" كَونهم ليسوا مسلمين، ثم عرجوا على المجتمع المسلم مُدّعين الحِرصَ عليه، زاعمين أنهم أَتَوْا بالنظريات والتطبيقات التي تحرّر المسلمين والمسلمات من قيود(؟) النصوص، فبدؤوا بالتشكيك في الكثير من نصوص الكتاب والسنة، وإظهار النصوص المتعلقة بالمرأة والحدود على أنها استعباد وهمجية تخالف الإنسانية!!! وأنّ مصطلحات "الكفر" و"الجهاد" و"القتال" تخالف "السّلام الإنساني" و"العالمي" و"الأخوة الإنسانية"، وأنَّ غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ومعارك المسلمين هي من جنس الاستعمار لا دعوات وفتوحاتٍ قام بها عليه الصلاة والسلام وأصحابه وصالحي مَن بعدهم طاعةً لله تعالى! وبالمعنى المختصر فهم يحاولون إيهام المسلمين أنّ تمسّكهم بعقيدتهم ودينهم الحنيف ونصوص الكتاب والسّنّة يعدّ تشددًا يخالفُ منهج "الوسطية" و"الاعتدال" الذي اخترعوه وفق أهوائهم، وألبسوه ثوب البراءة والشرعية، وزخرفوه بالملهيات والفتن والشهوات، ليتم لهم بذلك خداع النّاس وتسويق شذوذهم وانحلالهم وتفاهاتهم، وقد نجحوا في ذلك أيما نجاح!  فَبِتنَا نَسمع مِن المسلمين أنفسهم يشتمون عُلماءَهم ويزدَرون طلبة العِلم ويلمزون كلَّ مَن ينادي بالتمسّك بالكتاب والسّنة!! ...فيا فرحة إبليس!

فإلى أيِّ وسطية يدعون؟ وعن أيِّ نوعِ سلامٍ يتحدّثون؟ وعن أي أخوة يتكلمون؟! فهم أنفسهم –مع أنهم على باطل- قد مَلؤوا الدنيا حُروبًا وفي أراضي المسلمين أيضًا، ولا يزالون يفعلون ذلك؛ فها نحن  نراهم لا يفرّقون بين حجر ولا شجر ولا حيوان ولا طفل ولا امرأة ولا مسنّ ولا بيئة ولا غير ذلك؛ فهل نفهم من ذلك أنّ تعايشهم وحبّهم وإيخاءهم يطلبونه من جانب واحد، وبقوة السِّلاح؟! فانظر كيف أنّ أفعالهم  وجرائمهم –مع أنهم على باطل- يعتبرونها دفاعًا عن السّلام وتعميقًا الأخوةَ الإنسانية وتحقيقًا للحُقوق وحرصًا على الإنسانية بينما أفعال غيرهم ولا سيما من المسلمين –مع أنّ المسلم على حقّ يأتمر بأمر الله تعالى- يعدّونها إرهابًا واستعمارًا وتخلفًا وكرَاهية وتشدّدًا وسلبًا لحقوق المرأة والطفل والحرية الشخصية وما إلى ذلك؟!!

فيظهر لك جليا أن معنى "التشدد" أو "خطاب الكراهية" عندهم هو كل خطابٍ لا يخدم مصالحهم ولا عقائدهم ولا ثقافاتهم، وأنّ "الحبّ" و"الأخوة" و"الوسطية" و"الاعتدال" عندهم هو أن تكون تبعا لهم، طائعًا لأوامرهم، سائرا وفق شذوذهم وأهوائهم. وقد أخبرنا ربنا تعالى عنهم فقال: (وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡیَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ) لنحذر من ألاعيبهم.

ويحسُن بِي هنا التعريج على مسألة الوسطية كي لا أفهم بغير ما قصدت فأقول باختصار: إنّ "الوسطية" هي اتّباع كتاب الله تعالى وسُنّة نبيّه محمّد صلَّى اللهُ عليه وسلم وفق منهج سَلفنا الصالح. فليست "الوسطيةُ" -كما يظنّ -أو يريد!- البعضُ- تحييدَ الأحكام الشرعية أو تبديلَها أو تحريفَ معانيها بحجّة لزوم الوقتِ، ومتابعة تيارات المنظومة العالمية بشرقها وغربها...فهذا باطل باطل باطل!! فأحكام الشّريعة الإسلامية السّمحاء صالحة مصلحة لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة؛ يقول تعالى: (ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینࣰاۚ)، وديننا دين يسرٍ؛ يقول تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلدِّینِ مِنۡ حَرَجࣲۚ)، (یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ). فالله تعالى لا يريدُ لعباده إلا السّعادة والنّجاة والخير واليُسر، وقد بَيّنَ لهم جميع الأحكام الموصلة إليه بما في ذلك الرخّص لذوي الحاجات وفي زمن الحاجات؛ فلذلك لا ينبغي للمُسلم تفسير "التخفيف" أو "التسهيل" إلا وفق ما جاءت به النّصوص الشّرعية كي يضمن البقاء في الوسطية، والاتصاف بالخيرية، والفوز بالسعادة الأبدية.

...

وبعد كل ما ذكرناه فقد يقول قائل: وما الضير في "التعايش" و"تقبل الغير"، أو ما المانع أيضًا أن يؤمن المسلم بما يراه مناسبًا ومَا إلى ذلك، ألم يقل الله تعالى: (لكم دينكم ولي دين)؟ والجواب مِن شقين:

ففيما يخص المسْلِم؛ فإنّ هذه الآية ليستْ في حقِّه أصالةً. وكما لا يجوز للمسلم تفصيلَ شريعة الإسلام على هواه فيؤمن ببعضها ويترك البعض الآخر، قال تعالى: " یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱدۡخُلُوا۟ فِی ٱلسِّلۡمِ كَاۤفَّةࣰ وَلَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَ ا⁠تِ ٱلشَّیۡطَـٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوࣱّ مُّبِینࣱ "، وقال تعالى:"أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضࣲۚ فَمَا جَزَاۤءُ مَن یَفۡعَلُ ذَ ⁠لِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡیࣱ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یُرَدُّونَ إِلَىٰۤ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗويحسُن هنا ذِكْرُ كلام العثيمين -رحمه الله- شارحًا ما عليه المسلمون اليوم: "هذا الذي يعبد الله على هذه الطريق، حقيقةً لم يعبد الله وإنما عَبَدَ هواهُ، إذا صار الحكم الشرعي يناسبه قال: أهلًا وسهلًا وعلى العين والرأس، نحَكّم الكتاب والسنة ونذعن لله ورسوله، وإذا صار الحق عليه أو ما يحبه: والله هذا يحتاج إلى تأويل، أو لعلنا ما فهمنا المعنى، أو لعله ينزل على بعض الحالات، أو يعصي الله مباشرة، يعني: صراحة بدون تأويل وبدون أي شيء، فيه الآن من الأمة من يفعل هكذا؟ فيه، كثيرٌ جدًّا"؛ فالأمر ليس بالهَيِّن كما يظنّ البعض، فانظر إلى حال المسلمين اليوم، ألا يمكن أن يكون هذا من ذاك؟ نسأل الله العفو والعافية.

وأما معاملة "غير المسلم"؛ فنعم! فلا مانع من التعامل والمتاجرة وحسن المجاورة والإحسان...ولكنْ! دون تمييع الفروقات والاعتراف بباطلهم وما يؤدي إلى إفساد المسلمين أو استضعافهم أو إخراجهم بغير حقٍّ من ديارهم وأموالهم. فالمسلم لا ينبغي له أن يتنازل عن الحقّ الذي يحمله؛ لأن مصدره مِن عند الله تعالى، وهو يطيع الله ورسوله لا سواهما، وَلَو يتنازل عن شيء من دينه فإنّ ذلك يعدّ مِنَ الخذلان، قال تعالى: (إن تنصروا االله ينصركم)، بدلالة مفهوم الآية. ثم إنّ قوله تعالى (لكم دينكم ولي ديني) ليس فيها إقرار بباطلهم وإنما خرج مخرج التهديد والوعيد، قال الشنقيطي رحمه الله: "قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَكم دِينُكم ولِيَ دِينِ﴾ . هُوَ نَظِيرُ ما تَقَدَّمَ في سُورَةِ يُونُسَ ﴿أنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أعْمَلُ وأنا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ . وَكَقَوْلِهِ: ﴿لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكُمْ﴾. وَلَيْسَ في هَذا تَقْرِيرُهم عَلى دِينِهِمُ الَّذِي هم عَلَيْهِ، ولَكِنْ مِن قَبِيلِ التَّهْدِيدِ والوَعِيدِ كَقَوْلِهِ: ﴿وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكم فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ إنّا أعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ نارًا أحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها﴾".

 ثم قال رحمه الله: "فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَنهَجٌ إصْلاحِيٌّ، وهو عَدَمُ قَبُولِ ولا صَلاحِيَةِ أنْصافِ الحُلُولِ؛ لِأنَّ ما عَرَضُوهُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلّم مِنَ المُشارَكَةِ في العِبادَةِ، يُعْتَبَرُ في مِقْياسِ المَنطِقِ حَلًّا وسَطًا لِاحْتِمالِ إصابَةِ الحَقِّ في أحَدِ الجانِبَيْنِ، فَجاءَ الرَّدُّ حاسِمًا وزاجِرًا وبِشِدَّةٍ؛ لِأنَّ فِيهِ أيْ فِيما عَرَضُوهُ مُساواةً لِلْباطِلِ بِالحَقِّ، وفِيهِ تَعْلِيقَ المُشْكِلَةِ، وفِيهِ تَقْرِيرَ الباطِلِ، إنْ هو وافَقَهم ولَوْ لَحْظَةً ".

فَهُمْ في الواقع لا يريدون من المسلمين –بتلك المصطلحات الفضفاضة والملتوية- سوى تقديم التنازلات في دينهم الحقّ؛ لأن أعداء الإسلام على علم –من واقع دراساتهم وتاريخ المسلمين- أنَّ المستقبل دائمًا لهذا الدين وأهلِه، وأنَّ قيم الإسلام وثوابته وإيمان المسلم يغلب عقولهم القاصرة وأطماعهم الزائلة وقوتهم الكرتونية التي يتبجحون بها.

وهنا يحسن التنبيه على أنّ معارك المسلمين ضد الكفار سواء كانت مِن باب الدعوة إلى توحيد الله والإيمان برسالة الإسلام (=جهاد الطلب) أو من باب دفع ضررٍ (=جهاد الدفع) فهي معارك شرعية تحملُ الرّحمة والمستقبل المشرق للنّاس أجمعين؛ نقول هذا لأنه قد غاب(؟) عن أولئك ومَن سار حولهم بأن:

المسلم يؤمن بالله تعالى ربًّا؛

وأنه تعالى هو الخالق؛

وأنّه سبحانه له الأسماء الحسنى، ومتصف بصفات الكمال المطلق؛

وأنه مَا خلق الخلق إلا لعبادته تعالى؛

وأنَّ الخلقَ جميعًا رَاجعون إليه؛

وأن هذه الدنيا هي دار بلاء وابتلاء؛

وأنّ الدين عند الله هو الإسلام؛

وأنه هو من أرسل الرسل وأنزل الكتب؛

وأنه ختم الأمر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛

فأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله؛

وأنّ الأوصاف والأحكام التي في الكتاب والسنة هي "أوصاف وأحكام شرعية" مِن عند الله تعالى العزيز العليم الخبير الحكيم الرحيم، لا يجوز لأي مخلوق تبديلها أو تحريفها بأيِّ مُسوِّغ كانَ. فوصف الكفر -على سبيل المثال- جاء في مقابلة الإيمان والإسلام؛ قال تعالى: (رُّبَمَا یَوَدُّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡ كَانُوا۟ مُسۡلِمِینَ)، وقال تعالى (وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّبِعُوا۟ سَبِیلَنَا وَلۡنَحۡمِلۡ خَطَـٰیَـٰكُمۡ وَمَا هُم بِحَـٰمِلِینَ مِنۡ خَطَـٰیَـٰهُم مِّن شَیۡءٍۖ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ)، وقال تعالى: (یَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُوا۟ وَلَقَدۡ قَالُوا۟ كَلِمَةَ ٱلۡكُفۡرِ وَكَفَرُوا۟ بَعۡدَ إِسۡلَـٰمِهِمۡ). ولعنُ الكفار وأعداء الله ورد في العديد من النصوص؛ قال تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَأَعَدَّ لَهُمۡ سَعِیرًا)، فهل يريدونَ مِن المسلِمِ أن يَعدَّ هذه الآيات الكريمات مِن جملة خطاب "الكراهية" وَفق ثقافاتهم ومخططاتهم؟! سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم!

...والمقصود أنَّ المسلمين مطالبون بتمييزِ أنفسهم عن غيرهم متى لزم الأمر حتى لا يختلط الحق بالباطل، ومطالبون بالدّعوة إلى الله تعالى بشتى الطرق المشروعة سواء باستعمال الحكمة، أو الموعظة الحسنة، أو تأليف القلوب، أو الجِدَال، أو الجِلَاد، بحسبِ مقتضى الظّرف لـِمَا يحملونه من حقّ. وأمّا مجرّد التّعامل مع الكُفّار (غير المسلمين) في التِّجارة أو حسن المجاورة  والإحسان إلى من يستحق ومساعدة المعوزين منهم وَمَا إلى ذلك فهذا إنْ حَدثَ فإّنه لا ينفي التميّز عنهم، وإخلاص العمل لله تعالى ("لا لأجل الإنسانية")، والتمسّك بكتابه وسّنة نبيِّه، واستمرار الدّعوة إلى الإسلام بالطرق الحكيمة التي تناسبُ الظرفَ. وحينما يفعل المسلم أي شيء مِن ذلك فإنه لا يفعله مِن بابِ "الإنسانية" وإنّما يفعله لأنه مُسلمٌ طائع عابد لله تعالى لِيفوزَ بالأجر والرّضا؛ قال النّبيّ صلى الله عيه وسلم: (إنّما الأعمال بالنيات وإنما لكلّ امرئ ما نوى)!

وليُعلم –في هذا المقام-ومن باب التذكير وإعادة التأكيد- أنّ أمرَ الدعوة إلى الله، ونشر التوحيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة دين الله على مراده تعالى ليست أمورًا اختيارية تخضع للهوى حتى ننتظر أعداء الإسلام والفاسدين ليعطوا المسلمين دروسًا في التوحيد والأخلاق والحرية والأخوة والحقوق والواجبات، ويفسّروا لهم نصوصَ الكتاب والسّنة على أهوائهم ليتمكنوا بعد ذلك من تحويل دعوة المسلمين الصافية البيضاء النّقية مِن دعوةِ عُبوديةِ اللهِ تعالى وإقامة دينه إلى عُبودية الأشخاص والمادة والطبيعة والركض خلف المال والشهرة والشّهوة والحرث والنّسل وتحقيق الأماني الزائفة. فهم –أي أعداء الله ورسوله- عَلى عِلمٍ أنّ الدّينَ الإسلامي هو دينٌ حكيم ورحيم ومتين وعادل وعملي إلا أن التمسّك به يهدّد امبراطورياتهم البائدة وديمقراطياتهم الزائفة وعقائدهم الباطلة؛ فلذلك تجدهم يبذلون الأموال والأوقات في سبيل إضعاف تمسّك المسلمين بدينهم بشتى الوسائل، وتحويله قدر استطاعتهم إلى مجرد حركات تؤدى، ورموز تقرأ بلا فهم ولا تطبيق -ولا سيما مقتضيات كلمة التوحيد-، بمعنى: تحويل حياة المسلمين إلى جاهلية باسم الإسلام. فلا يتهاونون في نشرِ مصطلحاتٍ رنّانة ومنفّرة في آن واحد، وإذاعةِ المغريات المادية وتبنّيها: كجنون الكرة والغناء والشهرة والموضة والشذوذ، وحقوق المرأة والطفل، والمال والريادة، والإغراق في اللّهو، وفتح الهجرة إلى دولهم، والسماح لهم بأخذ المناصب الحساسة في مجالسهم، وإظهار أنفسهم على أنهم أرباب الحريات المطلقة والديمقراطية والعدالة والإنسانية حتى يكسبوا –من المسلمين- المزيد من الأصوات، والمزيد مِن أدواتِ القُوّة، والودّ والولاء. فيضمحلّ بذلك الفارق، فلا يعدّ قلبُ المسلم صالحًا للتمييز بين الحق والباطل، ولا بين الصلاح والفساد غافلًا عن مخططات أعداء الإسلام؛ فَهَمُّ الجميعِ –المخطط والمنفذ أو المنتج والمستهلك!- صارَ مُنصبًا لبناء العظمة للنفس، والانشغال بالدنيا للإنسانية، وإضحاك الناس للإنسانية، وتركِ بصمة دنيوية للإنسانية وما إلى ذلك ولو على حساب الآخرة الباقية. وكي ينفّذوا مخططاتهم بالقانون أنشؤوا لذلك منظمات متنوعة، وهيئات مختلفة وبرامج متعددة وأيامّا محددة، وأعطوا لأنفسهم الحق في التدخل في شؤون المسلمين وفي لغتهم العربية وفي كتاب ربّهم وسُنّة نبيهم، وراحوا يستعملون تلك المنظمات والهيئات والبرامج والمواسم وسائلَ ضغطٍ وأوراقَ ابتزازٍ في مجالسهم العالمية الكبرى والمتنوعة لمن يريد الاستفادة من حفنة أموال أو مزايا أو اتفاقيات أو غير ذلك، ولسانُ حالهم: إمّا أن تتنازل عن قيمك وأخلاقك ودينك أو لا مساعدات ولا مزايا؟

وههنا تساؤلات:

فلَوْ كانَ –حَقًّا- همّهم الإنسانية والحرية والأخوة والعدالة كما يدّعون فَلماذا يستعملون أساليب الابتزاز الاستعمارية والفاشية في مساعدةِ النّاس أو في تطويرهم(؟)؟! ولِمَ لا يتركون الناس وشأنهم فيقدّمون تلك العلوم والمساعدات مِن غير شروط؟! أم أنّ هذا النوع من "الإنسانية" التي يتغنون به يُغيَّبُ وقتَ تضارب المصالح والأطماع الشّخصية؟!

ولكني دائما أقول في نفسي عندمَا يتعلق الأمر بينَ منتِجٍ طَمّاعٍ ليس لديه ما يحمله على الخوف من الله تعالى وبين مستهلك لا يميّز الغثّ مِن السّمين، فإنّ اللّومَ أول ما يقع فإنه يقع على المستهلك؛ لأنه هو مَن قَبِلَ واشترى وشجّعَ فازداد مع ذلك أطماع أمثال هؤلاء المنتجين المحتكرين والمنحرفين، وازداد معه فساد الجميع بما في ذلك المستهلك.

أَفَلَا يسع المسلم –والحال كما وصفنا- الاتزان في العمل؛ فيصلح دنياه وآخرته، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويستقل عمّن يفسد دينه ودنياه وآخرته؟! بل يستطيعه كما استطاع الأوائل، بل إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أساس قيام هذا الدين والعلامة الفارقة، فليس يوجد معروف أفضل من نشر التوحيد وتبليغ رسالة الإسلام إلى النّاس كافة، ولذلك كانت هذه الأمة هي خير الأمم؛ قال تعالى (كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَـٰبِ لَكَانَ خَیۡرࣰا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ) والشواهد من النصوص كثيرة جدا.

ولكنّ أعداء الإسلام والفاسدين لا يريدون مثل هذا التّوازن الإيجابي؛ لأنّ التمسك بالكتاب والسّنّة وتحقيق التوحيد الخالص، وتطبيق أحكام الحلال والحرام –كما أراد الله ورسوله- على أرض الواقع، ودعوة الناس إلى ذلك يهدّدُ وجودهم ونفوذهم كما تقدم بيانه، فإنّ باطلهم لا يمكن أن يجتمع إلا إذا فرّقوا الحقّ ومزقوا أهله!

وخلاصة الكلام في هذه المسألة:

لم  يكن غرضي البتة في هذه المقالة أن نقارن بين حقيقة الكراهية القادمة منهم وبينَ ما في ديننا الحنيف من رحمةٍ وصبر وحبّ وأمن وأمان وشجاعة ونشاطٍ وتميّز ودعوة إلى العلم وإلى الأخلاق العالية، فتاريخنا المشرق مشحون بأروع وأبدع صور الشجاعة والقيادة العادلة والرّيادة المتوازنة الطموحة، بينما أعداء الإسلام فتاريخهم الأسود وأعمالهم الشّنيعة –والمتجددة- شاهدة على أنهم مِن أبعد الناس عن احترامِ الإنسان وعقل الإنسان، وحفظِ العهود وحقوقِ الإنسان والمرأة والطفل والحيوان والبيئة والنبات والجماد والبحار والمحيطات؛ فجرائمهم لا تزال ساخنة، ودماء المسلمين لا تزال تُسفك بغير حقّ ومن غير تمييز.

ولكني أقول:

أولا: إننا -نحن المسلمين- لا نعبد إلا الله تعالى، ولا نتبع إلا رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ فنتمسّك بكتاب ربِّنا وسّنّة نبينا، ونحبّ ما يحبه الله ورسوله، ونبغض ما يبغضه الله ورسوله، ونوالي من يوالي الله ورسوله، وننصر من ينصر الله ورسوله، ونعادي من يعادي الله ورسوله، ونطلق الأوصاف كما أطلقها الله ورسوله، ونقيد منها ما قيده الله ورسوله، والحرام ما حرّمه الله ورسوله والحلال ما أحله الله ورسوله، لا نبدّل ولا نحرّف ولا نداهن، ولا نعترف بباطلهم مهما فعلوا، ونحارب الشبهات ونبينها للناس حتى يكونوا على بيّنة.

ثانيا: إنّنا أمّة الإسلام جعلنا الله خيرَ الأمم عِلمًا وعَملا وتقدُّمًا؛ فهي أمّة عِلْمية حَكيمة ورحيمة وشجاعة وقوية وعملية، يتنوع خطابها بحسب الحال والمكان، وهو لا يخرج عن العدل والتّواصي بالحق والصبر والمرحمة. وإنّ أهمَّ ما يميز المسلم عن غيره بأنه لا يعتمد في معرفة حقائق القضايا والمعاملات على القيل والقال والتلفيق، ولا على المادة والطبيعة والمظاهر، وإنما يعتمد على ميزان الحقّ "الكتاب والسنة على فهم خير الناس"، قال صلى الله عليه وسلم: "قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، فإنَّه مَن يَعِشْ منكم فسيَرَى اختِلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكم ومُحدَثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ "، والأدلة أكثر من أن تحصى. فأدلة المسلم التي يعتمد عليها قد ثبتْ سَنَدًا ومتنًا، وهو أيضًا ما ميّز هذه الأمة عن غيرها؛ إذ إنّ "الإسناد" يعدّ مِن أقوى الأسلحة التي يمتلكها المسلم لدفع كلِّ من يتجرأ على الكذب على الله ورسوله.

ثالثا: إنّ أهل الكفر والنِّفاق وأعداء الإسلام ليس جديدًا عنهم محاربة الحقّ وأهله، والتشكيك في دعوتهم ورميهم بألوان من الأوصاف المنفّرة؛ فقد ذَكَرهم الله تعالى في كتابه، وذَكَر لنا أوصاف أهل النفاق والكفر، وما فعلوه بالأنبياء وأتباعهم. فهذا الصراع الدائر بين الحق والباطل سيبقى قائما إلى يوم القيامة، كما قال تعالى في قصة إبليس: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا، قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا، قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا، وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الطائفة التي على الحقّ: "إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلاَ خَيْرَ فِيكُمْ، لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ".

...

وما ينقص المسلمين في هذا الزمان لقلب الموازين على أعداء الإسلام والمفسدين هو الرّجوع إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم حقَّ الرجوع، وتحقيق التوحيد الخالص لله تعالى، لسانُ حالهم (سمعنا وأطعنا)، والبدء بالتغيير الفَرديّ والإيجابي وذلك بالتخلص مِن عوائق الاستقامة وموانع الاستجابة؛ فقد قال الله تعالى (إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ)؛ فإنّه تعالى (یُحِبُّ ٱلتَّوَّ ا⁠بِینَ وَیُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِینَ)، و(یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ)، و(یُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِینَ). فتأمّل أيها المسلم حينَما تَنال محبةَ الله تعالى، ورضاه عنك!

ويحسن في هذا المقام أن أذكرَ شيئًا من عوائق الاستقامة والتغيير الإيجابي وموانع استجابة الدعاء مَا أراها قد تحوّلت إلى ظواهر في المجتمعات المسلمة:

-التعامل بالربا والقمار: فهذه من الطوام التي ابتلي بها غالب المسلمين اليوم، والتي لم تجلب لهم سوى مزيدٍ من الفقر والضّعف والهوان وإنْ أظهرها مَن أظهرها على أنها منتجات وتمويلات واستثمارات وريادةٌ تحققّ للفرد الثراء والشهرة وأحلام الطفولة والشباب وما بعد التقاعد!!!

فينبغي على المسلم –طاعةً لربه سبحانه وتعالى وتحسينًا الظّنّ بِه تعالى- التوقف فورًا عن التعاملات الربوية وألعاب القمار مهما كانت الأسماء أو اسم الجهة المنتجة لها، والنأي بنفسه عن الشبهات كيلا يقع في المحرمات؛ فإن الحق لا يعرف بالأسماء ولا بالأشخاص وإنما بالدّليل الشّرعي. وليُعلم أنّ أبواب الحلال كثيرة جدًّا لمن يبحث عنها، ولا تزال مفتوحة لمن يستثمر فيها، ففيها الخير والبركة والاستقامة واستجابة الدعاء والنَّجاة. قال النبي صلى الله عله وسلم: " أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، وقالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ ".

-جنون الشهرة والفن والكرة والموضة والثراء: فليس من شكّ أنّ هذه الأمور استحَالَت في زماننا موازين صلاح وتقدم ورُقيّ مع ما فيها من تشتيت للأذهان وفساد في الأخلاق وضياع للحقوق والواجبات مِن صدقات وزكوات وصلوات واستغفار وغير ذلك.

فعلَى المسلم –طاعة لله ورسوله- الحرص على الأوقات والأموال والأخلاق من تضييعها في مثل هذا التتبع القاتل لكل ما هو جميل ونافع. وليراقب المسلمُ ربّه، فإنّه مسؤول أمام الله تعالى عمّا استرعاه؛ يقول النّبّي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ"، و"المسؤول" ما سُمِّي كذلك إلا أنه يُسْأل عن أعماله؛ فلدينا هنا "سائل" و "مسؤول" و"مسؤول عنه". وانظر على سبيل المثال كيف إنّ تكلفة بناء ملعبٍ حديثٍ قد يكفي ربما لتطوير وسدِّ حاجيات مجتمع كاملٍ من مجتمعات المسلمين في أماكن الجفاف والمجاعات! أَوليست هذه هي الريادة الحقيقية النافعة...والباقية؟!

-اقتناء كلاب "الزينة!": قد يقول قائل: وما دخل هذا الموضوع في مسألتنا؟ سُؤال وجيه في زمن اعتدنا فيه -نحن المسلمين- على تحقير الكثير من الأشياء والتي قد تكون مانعًا مِن التغيير الإيجابي ومن استجابة الدعاء، بل ربما قد تكون من أسباب زوال جبال من النعم والبركات وإن كانت ظاهرًا ليستْ ذَا شأنٍ!

فظاهرة اقتناء الكلاب في البيوت قد انتشرت بين المسلمين بشكل واسع، بل صارت عند البعض شعارا للمدنية والتقدم والاستعلاء؛ بينما هو في حقيقته يأكل الحسنات، ويذهب البركات، ويجلب الأمراض؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تَدْخُلُ المَلائِكَةُ بَيْتًا فيه كَلْبٌ، ولا صُورَةُ تَماثِيلَ"، وقال: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إلَّا كَلْبًا ضارِيًا لِصَيْدٍ أوْ كَلْبَ ماشِيَةٍ، فإنَّه يَنْقُصُ مِن أجْرِهِ كُلَّ يَومٍ قِيراطانِ"..فانظر الآن، وقارن كيف حال ذاك البيت الذي يعيش فيه أهله مع الكلاب، يتقاسمون معها الأغراض والأكل والشراب وحتى قضاء الحاجيات! دع عنك لو قلنا لبعض هؤلاء -على سبيل المثال- :"اكفل يتيمًا"، فلربما عدّدَ لك الحقوق والدّيون والقروض، ولسان حاله "حِلْ عَنِّي!"

-الإسراف في تربية حيوانات "الزينة!": ومن ذلك أيضًا لزوم الحدّ من الإسراف في تربية الحيوانات "المنزلية"، وعدم التعامل معها على أن حقوقها تأتي قبل حقوق فقراء الجيران ومساكين أولي القربي واليتامى وغيرهم. فالكثير من المسلمين اليوم أضحى هذا الأمر لديهم وسيلة ترفيه سعيًا لإثبات التحضر والتمدن والتطور، أو لِـملْء الفراغ غافلين عن أن الله تعالى سائلهم عمّا ضيعوه من أموال وَأَوْقات، وعمّن أهملوهم من فقراءَ ومساكينَ ويتامَى وذوي الحاجة الذين كان سيكفيهم ربما نصف ما أنفقوه على تلك الحيوانات مِن مالٍ ورعاية.

ثم إنك -أيها العاقل- مهما فعلتَ فلن تكون أرحم بالخالق على مخلوقاته، فالله تعالى لما خلق هذه الحيوانات خلقها لتعيش في بيئتها الطبيعية، وأعطاها أدوات الاستقلالية والتّكيف والتطور والتكاثر والبقاء. أَوَلَيْسَ من حقِّها الطبيعيّ أن تتْركها وشأنها في أمَاكنها الطبيعية لتحيا حياتها الطبيعية كما تعيش أنت حياتك الطبيعية؟! فلنتأمل ذلك!

- الإسراف في الأكل والشرب واللهو؛ ويكفي هنا أن أقول: "خيرُ الأمور أعدَلُها"، لا أن يجعل العبد هذه الأمور تظهر بمظهر أهداف مصيرية تتكرر في كل يوم ومع كل مناسبة، أو يجعلها ساحات معارك لمحاربة الملل وتضييع الأوقات. فالسّلامة في التوسط في ذلك حِفَاظًا على الصّحة والمالِ، وجلبًا للبركةِ، ورحمةً بالفقراء والمعوَزّين، وشكرا للنعم؛ قال صلى الله عليه وسلم: "كُلوا وتصدَّقوا ، والبَسوا في غيرِ إسرافٍ ولا مَخيلةٍ"، وقال تعالى: (إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِینَ كَانُوۤا۟ إِخۡوَ ا⁠نَ ٱلشَّیَـٰطِینِۖ وَكَانَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورࣰا)، وقال تعالى: (وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَىِٕن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِیدَنَّكُمۡۖ).

- ضياع الأخوة الإيمانية: يكفي–في هذا المقام- هجرةُ النبي صلى الله عليه وسلم ليأخُذَ المسلمون منها دروسًا إيمانية عظيمة وعالية وحكيمة وعملية تكون تذكِرةً لكلِّ مَن يُؤخّر إقامةَ الدينِّ وتحقيقَ التوحيد والأخوةَ الإيمانية لأجْلِ قِوًى زائلة، وشعاراتٍ برّاقة، وخطابات هدامة سيتبرأ الناس منها يوم القيامة، بل إنّ أصحابها –هم أنفسهم- سيتبرأ بعضهم من بعض. فالله تعالى هو الذي خلق الخلق وقسم بينهم هذه الأرزاق بما في ذلك القوّة والضّعف، فلا أحد من الخَلق يملك مِن هذه الدنيا شيئًا مهما بلغَت قُوّته، قال تعالى (إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ یُورِثُهَا مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَـٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِینَ)، وقال تعالى (وَلِلَّهِ مِیرَاثُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ)، وقال تعالى (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون)، وقال سبحانه في بيان حال التابع والمتبوع: (إِذۡ تَبَرَّأَ ٱلَّذِینَ ٱتُّبِعُوا۟ مِنَ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوا۟ وَرَأَوُا۟ ٱلۡعَذَابَ وَتَقَطَّعَتۡ بِهِمُ ٱلۡأَسۡبَابُ)، وقال تعالى: (وَقَالُوا۟ رَبَّنَاۤ إِنَّاۤ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاۤءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِیلَا۠)، وقال تعالى: (وَیَوۡمَ یَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ یَدَیۡهِ یَقُولُ یَـٰلَیۡتَنِی ٱتَّخَذۡتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِیلࣰا، یَـٰوَیۡلَتَىٰ لَیۡتَنِی لَمۡ أَتَّخِذۡ فُلَانًا خَلِیلࣰا، لَّقَدۡ أَضَلَّنِی عَنِ ٱلذِّكۡرِ بَعۡدَ إِذۡ جَاۤءَنِیۗ وَكَانَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لِلۡإِنسَـٰنِ خَذُولࣰا). لذا وجب على المسلم النظر إلى المسلمين جميعًا على أنهم إخوة له في الدّين، يحبّهم ويواليهم أينما كانوا ومهما كان عرقهم أو كانت لغتهم،  كما قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة)، وقال النبي صلى الله وسلم: (المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولَا يُسْلِمُهُ، ومَن كانَ في حَاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حَاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرُبَاتِ يَومِ القِيَامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ)، وقال: "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ من الخير"، وقال: "إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَنافَسُوا، ولا تَحاسَدُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدابَرُوا، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا"، وقال تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱجۡتَنِبُوا۟ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمࣱۖ وَلَا تَجَسَّسُوا۟ وَلَا یَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَیُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن یَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِیهِ مَیۡتࣰا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابࣱ رَّحِیمࣱ).

- ضعف الاهتمام بالعلم ولا سيما التوحيد وتطبيقاته: ومما ينبغي الاهتمام به غاية الاهتمام تعلّم التّوحيد، وكيفية تحقيق مقتضياته على أرض الواقع حذرًا مِن الوقوع فيما يحبط الأعمال. وأيضًا ولتجنّب الوقوع في المحظورات -والتي بعضها من كبائر الذنوب- يلزم المسلمَ الحِرصُ على تحرّي مصادر الحلال، وتعلُّم أحكام المعاملات والبيوع كما يتعلم أحكامَ الوضوء والصلاة، والتزيّن بالأخلاق الفاضلة قدر المستطاع حتى لا يدخل في زمرة مَن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:" لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ"، وقوله: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْفُحْشُ، وَالتَّفَحُّشُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ، وَسُوءُ الْجِوَارِ". فإنّ الاهتمام بالعِلم من أنجع وسائل الوقاية مِن الوقوع في شراك بعض المفتين المغرورين، والمتهورين الفتّانين الذين يَدْعون إلى سبل الشياطين، يعملون –جاهدين- ليل نهار- على فتح أبواب الشرّ والمحرمات ونشر فاسدِ الأخلاق؛ فعن عبد الله بن مسعود قال: "خَطّ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطًّا ثم قال: «هذا سبيل الله»، ثم خطَّ خُطوطا عن يمينه، وعن شماله، ثمّ قال:«هذه سُبلٌ على كلّ سبيلٍ منها شيطان يدعو إليه»، ثمّ تَلا (وأنَّ هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)".

...وغير ذلك من الأمور المتفشية وهي كثيرة، ذكرتُ منها ما رأيته يناسب المقام؛ فإنّ بعض هذه العوائق المذكورة حينما تُزال فستساعد بإذن الله على إزالة الكثير مما لم يذكر، واللبيب تكفيه الإشارة.

وأختم هذه المقالة بدعوة ربانية لمن يريد أن يبحث عن وضع القواسم المشتركة بينه وبين دين الإسلام؛ فنُذَكّره بقوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)؛ فهذا هو المنهج الرّبّاني في البحث عن أرضيةٍ للتفاهم مع المسلمين؛ وهو الالتقاء على كلمة التوحيد والإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلّم، لا بالمطالبة بالتحريف والتبديل بمسمّى تجديد الخطاب، وبذريعة نبذ "الكراهية الإنسانية" والحفاظ على حقوق الطفل والمرأة والبيئة وما إلى ذلك...

وأمّا هذه "الإنسانية" -وما حام حولها من مصطلحات وادعاءات- فهي كلمةُ حقّ أُريدَ بها باطل ليجعلها أعداء الإسلام ومن والاهم ساحةً للتنازلات، ومسوّغًا لتمرير الشذوذ والانحلال والشركيات، وأداةً لشغل المسلمين بالتفاهات، ووسيلةً لاستضعافهم ونهبِ المزيدِ مِن الثروات، وسلاحًا للانقضاضِ على قيمهم وثوابتهم، وطُعْمًا لإخراج المسلمين من نورِ عبادةِ الله تعالى وحده لا شريك له إلى ظلمات الجهل وعبادة الأوثان (=المادّة) التي يخترعونها وقت الحاجة؛ ناصِبين أنفُسَهم أربابَ العلوم والتحضّر والتقدم والرّقي، واضعين دُولَهم ومؤسسّاتهم قِبلةً يؤمّها النّاس في اليقظة والأحلام، و"الإنسانية" بوصلة تدلّل عليهم.

والله وحده الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

 

تعليقات