احذر جرم الأفعال السلبية المتعدية

 

من المعلوم أنّ العبد محاسَبٌ ليس على الفعل المتعلق به فحسب، وإنما على الأثر المتعدّي أيضًا؛ قال تعالى (إِنَّا نَحۡنُ نُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُوا۟ وَءَاثَـٰرَهُمۡۚ)، والآثار: هي آثار الخير والشرّ "انظر تفسير السعدي".

وبِعِلْمِنا ذلك وبالنظر إلى أفعال العبد فإنك تجد أنّ لبعضها أثرا سلبيا شديدا قد يصعب إصلاح ما فاتَ المظلومُ من الخير سواء أكان معنويا أو ماديا. وَلْنضرب مثالين يوضحان المقصود:

الأول "الرّشوة": فليس من شكّ أنها من كبرى الجرائم؛ فهي من أدوات إبطال الحقوق وإحقاق الباطل، ولها من الأثر السلبي البالغ على الغير (المجتمع) وبأشكال متنوعة. فانظر معي - على سبيل التمثيل – لو أراد العبدُ المتلبس بالرّشوة أن يتوب -بعد مدة طويلة- من جرائمه فكيف له أن يصلح ما أفسدَ فعلُه حياة العشرات بل الألوف بل قد يصل –بحسب الحال- إلى الملايين من البشر ممن تأثروا سلبًا سواء في أموالهم أو أبدانهم أو ضيق معيشتهم أو دينهم أو...أو..؟ أَوَليس الأمر في حاجة إلى تفكّر... وتعقل... وتذكّر؟!

والمثال الثاني "منع الزكاة": وهذا الأمر من أشنع ما قد يرتكبه مسلمٌ يشهد ألا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله، بأن يمنع الزكاة المفروضة عليه -من رب العزة- ليعطيها لإخوانه الفقراء المفضولين عليه في الرّزق قال تعالى (وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلرِّزۡقِۚ)، وقال تعالى(نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَیۡنَهُم مَّعِیشَتَهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضࣲ دَرَجَـٰتࣲ لِّیَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضࣰا سُخۡرِیࣰّاۗ). فلك أن تتخيّل  -أيها العاقل- كم من محتاج تأثر جراء هذا المنع الجائر سواء بالإخراج أو التوزيع؟ ...

....نرى مثل هذه الأمور السلبية والمتعدية في انتشار ثمّ بعد ذلك يأتي بعض الناس اليوم من المستهترين بأحوال الناس يتكلمون عن القيادة والريادة ليل نهار؟ يظهرون بمظهر الأساتذة وبزي الحكماء كأنّ عقلاء الناس يجهلون هذه المصطلحات -القديمة بمعانيها الجديدة بأسمائها!-؛ وما أكثر مصطحات هذا الزمن الرّنانة والفضفاضة...!! فعن أيّ ريادة وقيادة نتحدث إذا كان أثر حرمان الفقراء وتهميش المعوزين في زيادة، فضلا عن ضياع الأخلاق وانقلاب الأولويات؟ وماذا سيَعُدّ أيّ عاقل مثل هذا التقدم المادي الجائر؟ أهو من جنس النافع أم الضار؟! أَوَيَعجز المسلم المؤمن في هذا الزمان أن يجمع بين الأمرين بأن يتقدم تقنيا -أو ماديا- وأخلاقيا كما كان الأوائل –رضي الله عنهم-، الذين كانوا يحرصون على صناعة النافع لدنياهم وآخرتهم على حدّ السواء ففاقوا الأمم صناعة وأخلاقًا (=ريادة وقيادة)؟!

وانظر –رحمك الله- إلى عاد قوم هود ماذا قال لهم نبيهم في سياق الذم: ﴿ أَتَبۡنُونَ بِكُلِّ رِیعٍ ءَایَةࣰ تَعۡبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمۡ تَخۡلُدُونَ ﴾ قال ابن العثيمين رحمه الله في تفسيره : "يعني أنكم تقصدون من هذه البنايات أن تكون آية ودليلًا برهانًا على قُوَّتكم، وقوله: ﴿تَعْبَثُونَ﴾: تتخذون ذلك عبثًا؛ لأنه لا مصلحة لكم فيه إلا مجرد العبث وإظهار العظمة وإظهار القوة، وهذا بلا شك أن كون الإنسان يُظْهِرُ قوته أنه عبث وفساد... لأن كل شيء يُتعب الإنسانُ فيه جسمَه ومالَه وفكرَه بدون فائدة فهو عبث لا فائدة منه، بل إنه إذا أراد ما وراءه من إظهار العظمة والكبرياء على الخلق صار أيضًا فسادًا..."؛ إلى أن قال –رحمه الله-:

" ﴿لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾، ثم قال من جبروتهم أيضًا العدواني؛ لأن الأول جبروت معماري ومصنعي، والثالث الجبروت العدواني: ﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾، والآن قِسْ هذه الأشياء على وقتنا الحاضر تجدها منطبقة تمامًا، فأمس تكلمنا على مَن يتخذون من هذه القوة آية للفخر والعبث، ثم هذه المصانع أيضًا التي يتخذونها مصانع القنابل الذرية والنووية وغيرها لأجل أن يخلدوا؛ حتى لا يتسلَّط عليهم أحدٌ، وحتى تكون لهم السيطرة في هذه المصانع". وقال الإمام البغوي: " أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَوْثِقُونَ الْمَصَانِعَ كَأَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ ".

ثم قارن بين ما يفعله بعض الناس اليوم من السباقات نحو "الأغلى" و"الأعلى" و"الأطول" و"الأكبر" و"الأجمل" و"الأشهر" و"الأرقى" و"الأقوى" و"الأصح بدنًا"...سباق للدخول في الموسوعات والتقدم في التصانيف المادية والتباهي بالممتلكات الشخصية، وربما لأغراض أخرى عَلِمَها من عَلِمها وجَهِلَها مَن جَهِلَها...فكأنه -فعلًا- مع ما نشاهده من تأخيرٍ للأولويات-سباقٌ نحو الخلود في الدنيا...

والخلاصة أنّ هذين مثالان يوضّحان المقصود وعليهما قس؛ وإلا فالأمثلة أكثر من أتحصى للأفعال الفاسدة التي يتعدى آثارها السّلبية إلى الغير؛ كالربا والقمار واللهو والتعدي على القوانين المنظمة لحياة النّاس وضعف تعظيم نصوص الكتاب والسّنة وغير ذلك. ولعاقل أن يقول أن فُشُوَّ مثل هذه الأفعال الفاسدة في المجتمعات مع غياب شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يكون –بشكل عام- سببًا من أسباب الذل والهوان -الجماعيّ- وتأخّر النّصر وإنْ كنتَ تشعر –في محيطك- بأنّك تحيا حياة سعيدة (!) مطمئنّة بعيدة عن أماكن الفقر والخوف. فإذا أتاك مثل هذا الشعور –غير آبه بأحوال مَن حولك مِن إخوانك المؤمنين-  فإني لا أشكّ أنّه من جنس الغرور؛ فأُمَّةُ الإسلام أمّة واحدة وخطاب الشّرع موجه إلى المسلمين جميعًا بقطع النظر عن الجنس أو الانتماء أو الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى"، وقال تعالى (إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةࣱ)،  وقال تعالى (كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ)، وقال تعالى (إِنَّ هَـٰذِهِۦۤ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ) وغير ذلك من النصوص. لِذَا عليك –أيها المسلم المؤمن- أن تكون واعيا بأنَّ تَغيُّرَ حالِك – وذلك بالعودة إلى الله وإقامة دينه في نفسك- قد يساهم في تغيير أحوال الكثيرين من حولك وإنْ كنت لا تراهم أو لا تشعر بهم سواء كانوا داخل محيطك أو خارجه؛ فعدم شعورك بهم أو عدم رؤيتك لهم لا يعني من ذلك عدم وجودِهم أو إهمالَهم -كأنك تتنصل من المسؤولية المجتمعية!-، وإنما هم موجودون ينتظرون من يحسن النظر والعمل، والله تعالى يقول: (تَبَـٰرَكَ ٱلَّذِی بِیَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ، ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡغَفُورُ)،

ثمّ أمعن النظر في حديث أمِّنا عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَكونُ في آخِرِ هذِهِ الأمَّةِ خَسفٌ ومَسخٌ وقَذفٌ ، قالَت: قُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ، أنَهْلِكُ وفينا الصَّالحونَ ؟ قالَ: نعَم إذا ظَهَرَ الخبَثُ). ويقول ابن القيم رحمه الله: "...مصائب الدنيا إذا وردت لا تخص الظالم وحده بل تصيب الظالم وغيره ويبعثون على نياتهم وأعمالهم كما قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةٍ)".

...فعلى ذلك  احرص كلّ الحرص على إصلاح نيتك وعملك قدر الاستطاعة، وأن تجعل قلبك وجوارحك دائمًا في جانب الإصلاح والصلاح ولو لم تر أثرَ صلاحك على غيرك. فالمهم أن يكون هدفك الأسمى أن ترجع إلى ربك -سبحانه- وأنت بريء من أشكال الفساد وأثره، وألَّا يطلبك أحد من المخلوقات في مظلمة أو مفسدة تسبّبتَ فيها سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وسواء داخل محيطك أو خارجه، وسواء علمتها أو جهلتها؛ فإن بعض الآثار المؤلمة التي تقع قد يُجهَل معرفة مداها ويَصعُبُ إصلاحها، بل بعضها يستحيل مع مرور وقتها المناسب وانتشار آثارها السلبية في الآفاق! فلنكن على حذر!

والله المستعان وهو وحده الهادي إلى سواء السبيل وحسن العمل والخلق!

تعليقات