الحلقة الأولى: توطئة (1) – لماذا خلقنا الله

مِنَ المعلوم أنّ الله تعالى لم يخلق عباده عبثا ليتنافسوا في البنيان والبنين والشهرة والسلاح، وليتهارشوا في بناء أطول حجرة وأكبر شجرة وأعظم جسر وما إلى ذلك([1])؛ لتتحوّل مثل هذه الأشياء –بسبب الغَفلة والغرور- مِنْ وسائل إلى أهدافٍ مطلقة، قال تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ). ولو كان الأمر كذلك لَتكافأت فرص جميع الخلق، فالله سبحانه عدل لا يظلم أحدا، كيف! وقد حَرَّم الظلم على نفسه تعالى. ولكنْ لما كانت هذه الدنيا المؤقتة دار بلاء ومكان ابتلاء جعل الله تعالى خَلْقَه درجات ليتّخذَ بعضهم بعضا سخريا فلا يرتبطون بالدنيا ولا يعيشون لأجلها، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ)([2]) ليس ليفتخروا بجنسهم أو نسبهم أو قبيلتهم أو جنسيتهم أو لونهم فهذه أمور لا أحد من المخلوقات يملك خياراتها([3])، ولو مَلَكوها فلن تعدوَ أن تكون فرصًا متاحة لاستغلالها في إرضاء الله تعالى وحده.

فالله سبحانه خلق العباد كما أخبرنا لأجل غاية واحدة وهي عبادته على مراده قال تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، لأجل ذلك بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليبلّغ ويبيّن؛ فنُحِبُّ ما يحبه ونبغض ما يبغضه، ونأتمر بأمره وننتهي عما نهى عنه في جميع مجالات الحياة؛ قال تعالى (قلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)؛ فهذا هو الهدف الأسمى من وجودنا، وتلك هي طريقة تحقيقها ليس يوجد غيرها([4]).

 فلأجل ذلك ينبغي على كلِّ ذي مسؤولية توفيرَ الموارد اللازمة وتهيئة الظروف الملائمة التي تيَسِّر لمن يرعاهم عبادة الله تعالى، بعكس ما نشاهده في أيّامنا مِن محاولات متواصلة لتضييق معيشة المسلم، ليتّجه فِكْرُه كُله لسدِّ الحاجيات وتوفير متطلبات الحياة المعقدة بِسَاعات عمل طويلة وشاقة جدَّا سنَّها أصحاب رؤوس الأموال وصُنّاع القرار، مُقدّمين بذلك المصالح المادية "الاقتصادية!" على مصلحة الإنسان كونه إنسانا وبشرًا و"مسلمًا"... فلا يكاد يعثر مثل هذا الفرد المسلم على لحظة صفاء يخشع فيها لربه تعالى!

فماذا يرُاد مِن هذا الإنسان المسلم؟

فهل يرُاد تعذيبه بهكذا سلوكيات؟ أم أنّ الأصل مساعدته لسدّ حاجياته الضرورية من مسكن وملبس وغداء وعلاج ومواصلات وتعليم حتى تتيسر له أمر العبادات في صفاء وراحة واطمئنان...؟ وبذلك يتحقق العدل، وتُحفظ الأمانات، وتنتشر الأخوة والمحبة الحقّة نحو استدامة التطور السليم والازدهار النافع كون الجميع مسلمًا يحمل غاية واحدة وهي عبادة الله تعالى، تنطبق على الجميع نصوص الوحيين من واجبات وحقوق. فلنسأل -إذًا- أنفسَنا مثلَ هذا السؤال: ماذا تريد من أخيك المسلم؟

...

ومَا نراه أيضًا في هذه الأيام من محاولاتٍ حثيثة لتغريب المسلمين وإبعادهم عن قيمهم وإفساد فطرتهم وتكدير توحيدهم، وإغراقهم في اللهو والترف والغرور بالتطوّر، وإضعاف اتباعهم لرسولهم وتحويل دينهم من منهج حياة ونجاة إلى مجرد رموز لا يتعدى جدران المساجد المزخرفة وأوراق الكتب-كَدِين اليهود والنصارى وعباد الأوثان- وقَلْبِ موازين الصلاح؛ فنرى التغني بالعولمة والدّعوة إلى التقارب الدّيني والأخوة الإنسانية المطلقة والإقليمية الضيّقة وجعل هذه الأمور –باسم المصالح- فوق رابطة الدين الإسلامي الحقّة، حتى وصل الحدّ ببعض المسلمين إلى تعظيم شَأن الكُفار -أعداء المسلمين المنتمين للدول المتطورة!- أكثر من المسلمين،  بل يثقون فيهم([5]) أكثر من ثقتهم في إخوانهم المسلمين، فنراهم يفعلون معهم ولهم وبهم أيَّ شيء لكسبِ الودّ والرِّضَا والتعاون ولو على حساب تغيير القيم والثوابت وقلب الحلال والحرام وظلم الناس باسم المصالح و(المسكوت عنه). فليس لنا إلا تذكير أنفسنا بقوله تعالى:(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)، وقوله تعالى: (إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا..)، وقوله (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ..)، وقوله:(وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)..فهذا هو حال المجرمين يوم القيامة تراهم يتبرؤون من بعضهم البعض بعدما كانت لديهم فسحة للإصلاح وفرصة للاستثمار،  بل انظر كذلك إلى الحال لحظة الموت وهم يطلبون العودة ولو للحظة واحدة كي يصلحوا ذاك الفساد، لكنْ... هيهات هيهات. قال تعالى (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)..فلا تغتر أيها العبد فإنّه ليس أيّ شيء في هذه الحياة يقبَلُ فرصة ثانية؛ وهذه الساعة، ساعة الحقيقة من تلكم الأشياء...ساعتئذ ستعاين المعنى الحقيقي للذة السعادة و أَلَـمِ الشّقاء.



([1] ) ..وأطول بيتزا وأكبر برغر وكبسة، ومن يصعد إلى الفضاء عبثًا وشهرة بل كل ذلك يُعدُّ إذا ضُيّعت الأمانات والأولويات مِنَ الإسراف الذي سيسألون عنه. ومن لا يصدق أو يستهزئ فلينتظر وينظر..

([2] ) ليس كما يدعي الكثير أن (الرزق ذكاء وشطارة!!)؛ فالله تعالى هو الذي أعطى هذا وحرم ذاك وهيأ الأسباب للغني ليكون غنيا، لأن الدنيا دار اختبار وأوامرٍ ونواهٍ. فلذلك أمر الله تعالى العبدَ بإقامة العدل في الدنيا لإعطاء كل ذي حقّ حقه قال تعالى:(اعدلوا هو أقرب للتقوى)، (إنّ الله يأمر بالعدل..)، و(ءاتوهم من مال الله الذي ءاتاكم). وَمن لا يقيمُ العدلَ في دنياه كما أمره تعالى فسيقيمه الله تعالى عليه في الآخرة، يوم الحساب والجزاء، والعدل الإلهي. فتنبه أيها الإنسان! فمَا أضعفك.

([3] ) ومن يفعل ذلك فعليه أن يفتخر على الجنس الحيواني، لا أجد فرقًا! وهذا مما لا يقبله عقل عاقلٍ. فهذا الذي خُلق ليكون حيوانا لم يملك خياراته، ولا البشري ملك خياراته الخَلْقِية، وإنما البشري ملك خياراته الخُلُقية ليعيش الطبيعة البشرية الكاملة لا أن يصادرها أو يغير منها حتى صرنا نرى صورا حيوانية في أجسادٍ بشرية.

([4] ) حتى الإمارة (المسؤولية والحكم) لا يمكن فصلها عن الدين وعن عبادة الله كما يحصل اليوم بابتداعهم لمصطلح "إسلام سياسي" و"إسلام ديني"، فهذا الأمر ليس سوى "علمانية" بثوب آخر؛ قال ابن تيمية في "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية (ص 130):"الواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله"، والتقرّب إلى الله لا يكون إلا بالاتباع؛ قال تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)، (قلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فجاءت هذه الآية امتحانا لكل من يدعي أنه يعمل من أجل مصلحة الشرع، ويدعي محبته لله تعالى. بل حَذَّر تعالى من مخالفة أمر نبيه قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وهذا أمر عام لا يجوز التفريق فيه بين سياسة وغيرها على اصطلاحات العصر. فالإسلام كله "سياسة"..قال تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).

([5] ) فحتى حينما يسلم شخصٌ من بلدان الغرب المتطور(!) تجدُ البشاشة ظاهرة عريضة على وجوه الناس، بينما حينما يُسلم شخصٌ من البلدان الأقل حظًّا في هذا الزمان تجد الكثير من المسلمين يلمزون ويغمزون ويشككون في إسلامه ظنا منهم أنه أسلم من أجل جنسية أو إقامة أو مال أو عَمل ما شابه ذلك!!!!

تعليقات